عبد الحليم قنديل يكتب: مفاوضات أوكرانيا المؤجلة

profile
  • clock 17 ديسمبر 2022, 3:53:25 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

رغم كلام كثير يقال عن مفاوضات لإنهاء حرب أوكرانيا، لا تبدو الفرص قائمة في المدى الأقرب، فالتناقض حدي، والحرب تواصل اشتعالها مع هطول ثلوج الشتاء، ويصعب تصور أدنى استجابة من موسكو لمطالب الغرب والرئيس الأوكراني، وقد حسمت روسيا قرارها أواخر سبتمبر الفائت، وأعلنت ضم المقاطعات الأربع (دونيتسك ولوغانسك وزاباروجيا وخيرسون)، إضافة لإقليم شبه جزيرة القرم ومدينة سيفاستوبول، وما من احتمال مرئي للرجوع عن القرار، وهو ما أكده ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين مرات في الأيام الأخيرة، ورد باستهجان على «خطة سلام» الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، التي أبلغها لقمة السبع وللرئيس الأمريكي جو بايدن، في اتصال هاتفي مطول.
موسكو من جانبها، لا تتوقف كثيرا، وربما لا تبالي بدعاوى خمسين دولة في التحالف الغربي الذي يحاربها، بحجة أن روسيا تقوض سيادة وتستولي على أراضي دولة مستقلة معترف بها، ويسخر الروس من أمريكا وحلفائها وتوابعها، ويذكرونهم بعشرات المرات، التي اعتدوا فيها على سيادة الدول ووحدة أراضيها، وفي جهات العالم الأربع، وفي أوروبا ذاتها، على نحو ما جرى ويجري مثلا من سنوات في صربيا، وإجبارها بالقصف على ترك مقاطعة كوسوفو، وإعلان انفصالها والاعتراف باستقلالها.
وتستند موسكو بالمقابل إلى مبدأ «حق تقرير المصير» الوارد أيضا في ميثاق الأمم المتحدة، وتعتد باستفتاءات شعبية أجرتها في المقاطعات الأربع موضع النزاع، وفي شبه جزيرة «القرم» قبلها عام 2014، وكلها إجراءات لا يعترف بها الغرب، تماما كما لا تعترف موسكو بما جرى ويجري في كوسوفو، وهو ما يعني أنه ما من سبيل لإقناع ولا لاقتناع متبادل، وما من طريق للتفاوض في هذه النقطة بالذات، اللهم إلا من باب فرض «الحقائق الجديدة» على الأرض، وبالاحتكام إلى حد السلاح، وهو ما تواصله موسكو وقواتها، التي تعرضت لانتكاسات خطيرة قبل شهور على الأرض الأوكرانية، دفعتها لانسحابات عشوائية من مناطق في مقاطعة خاركيف، ومن مدينة كراسني ليمان في مقاطعة دونيتسك، ثم لانسحاب بدا تكتيكيا وإراديا ومنظما من أراض في خيرسون غرب نهر دنيبرو، وجعل مدينة خيرسون صيدا مفضلا و»مدينة موت»، يهرب منها بضعة آلاف من الأوكران تبقوا هناك، بعد نجاح القوات الروسية في سحب نحو 160 ألفا من سكان خيرسون إلى الضفة الشرقية للنهر، واتخاذ مدينة أخرى عاصمة روسية مؤقتة للمقاطعة، وإيقاع القوات الأوكرانية في فخ المنطقة الواطئة غرب النهر، وتعقيد مهامها في البقاء هناك، وفي امتدادات خيرسون لجوارها في مقاطعتي ميكولاييف ودنيبرو بتروفسك، مع تركيز القصف بالصواريخ والطائرات المسيرة على تلك المقاطعات الجنوبية، وصولا إلى «أوديسا»، بهدف جعل الطموح الأوكراني في الوصول البري إلى القرم مستحيلا، مع نقل القتال البري الروسي إلى مقاطعة دونيتسك في الشرق، سعيا لاسترداد مناطقها التي لا تزال بعد في قبضة قوات أوكرانية، تحاول الصمود في باخموت الساقطة بالمعنى العسكري، والتي يفتح استيلاء الروس الوشيك عليها، على طريقة الزحف مترا فمتر، بما يفتح الباب لتقدم روسي إلى المدينتين الأهم كراماتورسك وسلافيانسك، مع استعادة كراسني ليمان طبعا، ولا تبدو القوات الروسية في عجلة من أمرها، خصوصا مع كسب زاد جديد من قوات «التعبئة الجزئية»، واستثمار ظروف حرب الشتاء الجارية، التي يزيد فيها الروس من حملاتهم الجوية والصاروخية، وبهدف شل وتدمير البنية التحتية الأوكرانية العسكرية والمدنية، وتطوير موسكو لأجيال جديدة «انتحارية» من الطائرات المسيرة، باتت تمثل تحديا صعبا لأنظمة الدفاع الجوي البالغة التطور، التي تدفقت وتتدفق على كييف من واشنطن ودول حلف شمال الأطلنطي «الناتو»، مع الآلاف من مولدات الطاقة وعشرات المليارات من الدولارات المضافة كمعونات طارئة، في محاولة لمنع الروس من تركيع أوكرانيا، وإغراق مدنها وسكانها في الظلام وبرد الشتاء المميت.

السباق لاستمرار الحرب هو جوهر ما يجري، وليس أحاديث التفاوض المتعجلة، وقد أعلنها بوتين بوضوح، وأكد استعداد موسكو لمواصلة الحرب لسنوات

الخلاصة إذن، أن السباق إلى استمرار الحرب هو جوهر ما يجري، وليست أحاديث التفاوض المتعجلة، وقد أعلنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بوضوح، وأكد استعداد موسكو لمواصلة الحرب لسنوات، وأمر بمضاعفة الإنتاج الحربي، ودفع أسلحة روسية متطورة إلى الميدان الأوكراني، في وضع اقتصادي متماسك متأهب، تسنده إيرادات البترول والغاز الطبيعي، التي تضاعفت في عام الحرب، والإخفاق الظاهر لخطط تقييد الإيرادات الروسية، بحيل تسقيف أسعار الطاقة، وردود فعلها العكسية، مع الخبرة الروسية المتراكمة في تجاوز تلال العقوبات الغربية، وقدرة موسكو على فتح أسواق بديلة وبشروطها، حتى في أسواق الغرب نفسه، وفي أسواق أوروبا بالذات، الجائعة لموارد الطاقة الروسية الأرخص من غيرها، مع اتضاح خديعة الأمريكيين لدول الاتحاد الأوروبي الكبرى، وجرها إلى حرب ذات طابع عالمي مع روسيا، لن تقدر على تحمل مضاعفاتها الاقتصادية بالذات، إضافة لتربح أمريكا على حساب أوروبا، وبيع الغاز الأمريكي البديل لها بأسعار فلكية، ومواصلة رفع أسعار الفائدة الأمريكية، بما يدفع رؤوس الأموال لهجرة أوروبا إلى أمريكا، واستمرار بوتين في عملية «خض ورج» أوروبا تأديبا وتهذيبا، بما يكشف تناقضات أطرافها البينية، وعجزها عن التقدم لدور يميزها في ميادين صراع دولي بات متعدد الأقطاب، تلعب فيه الصين الدور الحاسم، بتحديها التنافسي الشرس المعلن مع أمريكا، وبتحالفها المحسوس المؤثر مع موسكو، وبفوائضها التجارية الهائلة مع مناطق الدنيا كافة، عبر خرائط «الحزام والطريق»، وبحيازتها لزمام المبادرة، على نحو ما جرى في افريقيا مثلا، التي بلغت تعاملاتها التجارية معها ستة أمثال نظيرتها الأمريكية، وبتفوق تجارة بكين واستثماراتها في المنطقة العربية والآسيوية عموما، وهو ما تحاول واشنطن تداركه بعد فوات الأوان على ما يبدو، ومن دون أن تنجح في زحزحة موقف الصين المساند لروسيا اقتصاديا بالذات، مع مضاعفة التنسيق العسكري بين بكين وموسكو، في مناطق القطب الشمالي والمحيط الهادئ بالذات، وتشكيل خرائط صدام متسعة، لا يتصور معها أن تنتهي حرب أوكرانيا بالتفاوض قريبا، فقد تحولت أوكرانيا وحربها، إلى ميدان اختبار بالنار لحدود وقواعد العالم الجديد، وإلى حرب استنزاف لا ترحم، تبدو فيها مقدرة موسكو أكثر ظهورا على استنزاف الغرب، وعلى استنفاد مخزونات الذخيرة الغربية، في حرب كان هدفها المعلن غريبا وأطلنطيا، هو استنزاف وإضعاف وهزيمة روسيا، وهو الهدف الذي لا يبدو في وارد التحقق، فحروب الروس طوال التاريخ المقروء، تمضى على نسق بعينه، وقوده الصبر والتمهل والتحمل، وتوالي الهزائم بعد الهزائم، ثم يكون النصر الروسي المفاجئ الصادم في النهاية، وقد هلل الغرب لتراجعات وقتية لحقت روسيا في الحرب الجارية، وصوروا وتصوروا وهماً، أن روسيا باتت على حافة انهيار، وأن بوتين يمضي إلى عزلة دولية موحشة، قد يوافق معها على مفاوضات لإنقاذ ماء وجهه، وهو ما يحدث عكسه اليوم، فقد أوقفت موسكو جولة مفاوضات لتجديد معاهدة «نيو ستارت»، كانت مقررة في القاهرة، ودلّ السلوك الروسي على تكتيك «بوتيني»، مفاده أنه لا فرصة للتقدم في المفاوضات النووية، من دون أن تبدي واشنطن سعيها للتفاهم، والتسليم بشروط موسكو في أوكرانيا، ثم جاء خط سير الحوادث ليدعم وجهة نظر موسكو، وأن عمليتها العسكرية في أوكرانيا كانت بلا بديل، ففي زلة لسان للمستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل، انكشف ما كان مستورا، ومتواطئا عليه غربيا منذ عام 2014، فبعد ضم موسكو لشبه جزيرة القرم، دارت مفاوضات، شاركت بها برلين وباريس مع موسكو والرئيس الأوكراني وقتها بوروشينكو، وجرى التوقيع على اتفاقيتي «مينسك ـ 1» و»مينسك ـ 2»، وقد نصتا على منح حكم ذاتي موسع للأغلبية الروسية في مقاطعتي الدونباس دونيتسك ولوغانسك»، ووقف الإبادة الجماعية والثقافية الأوكرانية للسكان، بينما جرت الأمور في الاتجاه المعاكس، وسقط 14 ألف قتيل من السكان الروس، وأعادت القوات الأوكرانية الاستيلاء على مدن كان حررها «الانفصاليون» الروس، وهو ما وفّر لموسكو سببا لإسقاط الاعتراف باتفاقات «مينسك»، التي استخدمت ستارا لتكثيف حضور حلف «الناتو» في أوكرانيا، وكسب وقت لتدريب قوات كييف، على أحدث أجيال الأسلحة الغربية، وهو ما اعترفت به ميركل في حوارها الأخير مع موقع صحيفة «دي تسايت» الألمانية، وقالت ما يعني أن اتفاقات «مينسك» لم تكن إطارا لحل مشكلة سكان الدونباس، بل لشراء فسحة وقت استعدادا لحرب مع موسكو، ومن وراء قناع القوات الأوكرانية، وهو اعتراف يضيف مددا لوجهة النظر الروسية، ولتعويل موسكو عند التفاوض على حقائق السلاح وحدها.
كاتب مصري

التعليقات (0)