كتب جين بربانك: النظرية الكبرى التي تقود بوتين إلى الحرب

profile
  • clock 11 أبريل 2022, 6:18:38 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

بدأت خطط إعادة توحيد أوكرانيا ودول ما بعد الاتحاد السوفياتي الأخرى في قوة عظمى عابرة للقارات في روسيا وفق نظرية إمبراطورية أوراسيا.
الهجوم الذي شنه الرئيس فلاديمير بوتين، على أوكرانيا، بعد مرور ما يقرب من شهر ما زال يصعب تفسيره. فقد باتت الصواريخ التي تنهمر على المباني السكنية وهروب العائلات تشكل وجه روسيا الذي يراه العالم اليوم. ما الذي يمكن أن يدفع روسيا إلى اتخاذ مثل هذه الخطوة المصيرية لتصبح هكذا؟
تميل جهود فهم الاجتياح إلى الانقسام إلى مدرستين فكريتين عريضتين: تركز الأولى على بوتين نفسه وحالته الذهنية، وفهمه للتاريخ الماضي، والثانية تستدعي التطورات الخارجية لروسيا، على رأسها توسع حلف شمال الأطلسي (ناتو) شرقاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، باعتباره المصدر الرئيسي للصراع.
ولفهم الحرب في أوكرانيا، يجب أن نتجاوز المشاريع السياسية للزعماء الغربيين ونفسية السيد بوتين. فحماسة ومحتوى تصريحات بوتين ليست بالجديدة أو الفريدة بالنسبة له. منذ تسعينات القرن الماضي، بدأت خطط إعادة توحيد أوكرانيا ودول ما بعد الاتحاد السوفياتي الأخرى في قوة عظمى عابرة للقارات في روسيا. وتكشف نظرية إمبراطورية أوراسيا التي أعيد تنشيطها كل خطوة يقوم بها بوتين.
تسببت نهاية الاتحاد السوفياتي في إرباك النخب الروسية، لتنزع عنها مكانتها الخاصة في إمبراطورية شيوعية ضخمة. ما الذي ينبغي القيام به إذن؟ بالنسبة للبعض، كانت الإجابة هي فقط كسب المال بالطريقة الرأسمالية. ففي السنوات القاسية التي أعقبت عام 1991، كان الكثيرون قادرين على جمع ثروات هائلة من خلال التعاون مع نظام متساهل. لكن بالنسبة للآخرين الذين حددوا أهدافهم في ظل الظروف السوفياتية، لم تكن الثروة والاقتصاد الاستهلاكي النابض بالحياة كافيين. فقد شعرت نرجسية ما بعد الإمبراطورية بشدة بفقدان مكانة روسيا وأهميتها.
عندما فقدت الشيوعية سلطانها، بحث المفكرون عن مبدأ مختلف يمكن تنظيم الدولة الروسية على أساسه، حيث تبلورت استكشافاتهم لفترة وجيزة في تشكيل الأحزاب السياسية، وكان لها تأثيرها الدائم على إحياء الدين كأساس للحياة الجماعية. لكن مع تعثر الدولة على السياسات الديمقراطية في التسعينات، ترسخت تفسيرات جديدة لجوهر روسيا، معبرة عن العزاء والأمل للأشخاص الذين سعوا جاهدين لاستعادة مكانة بلادهم في العالم.
كانت الأوراسية من أكثر المفاهيم جاذبية، حيث انبثقت الفكرة من انهيار الإمبراطورية الروسية في عام 1917، فقد افترضت روسيا على أنها نظام حكم أوراسي يتضمن تاريخاً عميقاً من التبادلات الثقافية بين الأشخاص ذوي الأصول التركية، والسلافية، والمنغولية، والآسيوية الأخرى. في عام 1920، نشر عالم اللغة نيكولاي تروبيتزكوي، الذي يعد أحد المثقفين المهاجرين الروس الذين طوروا هذا المفهوم، كتاب «أوروبا والإنسانية»، الذي تضمن نقداً لاذعاً للاستعمار الغربي والنزعة الأوروبية. ودعا المثقفين الروس إلى تحرير أنفسهم من تعلقهم بأوروبا والبناء على «إرث جنكيز خان» لإنشاء دولة روسية أوراسية عظيمة تمتد عبر القارة.
كانت أوراسية نيوكلاي لتروبيتزكوي وصفة للتعافي الإمبراطوري - من دون شيوعية - وهو ما يراه وصفة ضارة مستوردة من الغرب. بدلاً من ذلك، شدد تروبيتزكوي على قدرة الأرثوذكسية الروسية المعاد تنشيطها على توفير التماسك عبر أوراسيا، مع رعاية فائقة للمؤمنين بالعديد من الأديان الأخرى التي تمارس في هذه المنطقة الشاسعة.
بعد قمعها لعقود في الاتحاد السوفياتي، نجت الأوراسية تحت الأرض وانتشرت في الوعي العام خلال فترة البيريسترويكا في أواخر الثمانينات. ظهر ليف جوميلوف، وهو عالم جغرافي غريب الأطوار أمضى 13 عاماً في السجون السوفياتية ومعسكرات العمل الجبري، باعتباره المعلم المشهور لإحياء أوراسيا في الثمانينيات.


أكد جوميلوف على التنوع العرقي كمحرك لتاريخ العالم. فوفقاً لمفهومه عن «التولد العرقي»، يمكن لمجموعة عرقية، تحت تأثير زعيم كاريزمي، أن تتطور لتصبح «عرقية فائقة» - وقوة منتشرة على مساحة جغرافية شاسعة، من شأنها أن تصطدم بوحدات عرقية أخرى متوسعة.
جذبت نظريات جوميلوف الكثير من الناس الذين شقوا طريقهم خلال فترة التسعينيات الفوضوية. غير أن الأوراسية جرى حقنها مباشرة لتجري مجرى الدم للقوة الروسية في متغير طوره الفيلسوف ألكسندر دوجين. بعد التدخلات الفاشلة في السياسة الحزبية في فترة ما بعد الاتحاد السوفياتي، ركز دوجين على تطوير نفوذه - حيثما كان ذلك مهماً - مع الجيش وصانعي السياسة. ومع نشر كتابه المدرسي المكون من 600 صفحة في عام 1997، بعنوان «أسس الجغرافيا السياسية: المستقبل الجيوسياسي لروسيا»، انتقلت الأورواسيوية إلى مركز الخيال السياسي للاستراتيجيين.
في رؤية دوجين لتعديل الأوراسية للظروف الحالية، بات لروسيا خصم جديد - لم يعد أوروبا فقط، بل العالم «الأطلسي» بأكمله بقيادة الولايات المتحدة. ولم تكن نزعته الأورواسيوية معادية للإمبريالية، بل كانت على العكس من ذلك: كانت روسيا دائماً إمبراطورية، وكان الشعب الروسي «شعباً إمبريالياً»، وبعد بيع التسعينات الخانق لـ«العدو الأبدي»، أمكن لروسيا أن تنتعش في المرحلة التالية من القتال العالمي لتصبح «إمبراطورية عالمية».
على الجبهة الحضارية، سلط دوجين الضوء على العلاقة طويلة الأمد بين الأرثوذكسية الشرقية والإمبراطورية الروسية. ويمكن تسخير قتال الأرثوذكسية ضد المسيحية الغربية والانحلال الغربي للحرب الجيوسياسية القادمة.
شكلت الجغرافيا السياسية الأوروبية الآسيوية والأرثوذكسية الروسية والقيم التقليدية كأهداف صورة روسيا الذاتية تحت قيادة بوتين. وجرى نشر موضوعات المجد الإمبراطوري والظلم الغربي في جميع أنحاء البلاد. وفي عام 2017، تم عزفها على الطبول في المعرض الضخم «روسيا، تاريخي». أبرزت عروض المعرض البراقة فلسفة جوميلوف الأوراسية، والاستشهاد القرباني لعائلة رومانوف والشرور التي ألحقها الغرب بروسيا.
أين كانت أوكرانيا في عملية الإحياء الإمبراطوري تلك؟ الإجابة هي أنها كعقبة، كانت موجودة منذ البداية. جادل نيكولاي تروبيتزكوي في مقاله عام 1927 بعنوان «حول المشكلة الأوكرانية» بأن الثقافة الأوكرانية كانت «تفرداً للثقافة الروسية بالكامل»، وأن الأوكرانيين والبيلاروسيين يجب أن يتحدوا مع الروس حول المبدأ التنظيمي لعقيدتهم الأرثوذكسية المشتركة. جعل دوجين الأمور أكثر مباشرة في نصه لعام 1997 عندما قال: السيادة الأوكرانية تمثل «خطراً هائلاً على كل أوراسيا». كانت السيطرة العسكرية والسياسية الكاملة على الساحل الشمالي للبحر الأسود «حتمية مطلقة» للجغرافيا السياسية الروسية، وكان على أوكرانيا أن تصبح «قطاعاً إدارياً بحتاً للدولة المركزية الروسية».
أخذ بوتين هذه الرسالة على محمل الجد. ففي عام 2013، أعلن أن أوراسيا كانت منطقة جيوسياسية رئيسية، حيث سيتم الدفاع عن «الشفرة الجينية» لروسيا وشعوبها العديدة ضد «الليبرالية الغربية المتطرفة». في يوليو (تموز) من العام الماضي، أعلن أن «الروس والأوكرانيين شعب واحد»، وفي صراخه الغاضب عشية الاجتياح، وصف أوكرانيا بأنها «مستعمرة أشبه بدمية»، حيث تتعرض الكنيسة الأرثوذكسية للهجوم ويستعد «ناتو» لشن هجوم على روسيا.
هذا الكوكتيل من المواقف - الشكاوى من العدوان الغربي، وتمجيد القيم التقليدية على انحطاط الحقوق الفردية، والتأكيدات على واجب روسيا في توحيد أوراسيا وأوكرانيا التابعة لها - نشأ في مرجل استياء ما بعد الإمبريالية. الآن هم يبثون نظرة بوتين للعالم ويلهمون حربه الوحشية.
الهدف، بوضوح، هو الإمبراطورية. ولن يجري رسم الخط في أوكرانيا.

 

(الشرق الأوسط اللندنية)

 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)