عبد المجيد ابو العلا يكتب: ذاكرة الأوبئة: هل تساعد جائحة "كورونا" الدول على تجنُّب تفاقم "جدري القرود"؟

profile
  • clock 5 سبتمبر 2022, 2:44:44 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

أثار انتشار مرض “جدري القرود”، عقب جائحة كورونا التي لم يتجاوزها العالم حتى الآن، تساؤلات حول تكرار الأوبئة، وكيف يتعامل العالم معها من جهة، وعن الخبرة التي قد اكتسبها العالم من جرَّاء مواجهته الفيروس التاجي، وإمكانية توظيفها للتعامل بأسلوب أكثر رشداً مع “جدري القردة” من جهة أخرى، ارتباطاً بما يمكن تسميتها “الذاكرة الوبائية” أو “الذاكرة المؤسسية”، ودورهما في تعزيز مرونة الاستجابات المؤسسية للأزمات، وهو ما يعني في تلك الحالة دفع خبرة الوباء القريب نحو إجراءات مؤسسية تعزز قدرة المجتمعات والمؤسسات على مواجهة الوباء الجديد أو حتى المحتمل. وبرزت في هذا الإطار تساؤلات حول إذا ما كان العالم قد استفاد من تجربة مواجهة فيروس كورونا وهو يواجه فيروس جدري القرود أم لا، وحدود الاستفادة مما يمكن تسميتها “خبرة الأوبئة”.

الخبرة المؤسسية

يساعد بناء ذاكرة مؤسسية تجاه الأزمات على تعزيز قدرة المؤسسات والحكومات على مواجهة الأزمات الجديدة والمحتملة؛ حيث تستخلص الدول الدروس المستفادة من الأزمات السابقة وتستفيد منها لبناء “مرونة تكنوقراطية”، وتطوير استراتيجيات استجابة للأزمات، وتكييف قدراتها ومواردها للاستعداد لمواجهة الأزمات المماثلة. وعلى سبيل المثال، تمكنت الهند من تطوير ذاكرة مؤسسية تكنوقراطية تعزز المرونة والصمود تجاه الكوارث الطبيعية، تمثلت نتائجها في تمكُّن ولاية أوديشا من إدارة مخاطر الزلازل؛ الأمر الذي أدى إلى مقتل أقل من 50 شخصاً فقط نتيجة إعصار فيلين عام 2013، مقارنةً بمقتل 10000 شخص نتيجة الإعصار الذي ضرب الولاية عام 1999؛ ما يشير إلى فاعلية الدور الذي تلعبه الذاكرة المؤسسية، والتعلم من الأزمات في مواجهة الصدمات والأزمات الجديدة.

والأمر ذاته ينطبق على مواجهة الأوبئة؛ حيث يمكن أن تساعد الذاكرة المؤسسية الدول على تطوير استراتيجيات لمواجهة الصدمات الوبائية الجديدة. وقد ساعدت إدارة ولاية كيرلا الهندية لفيضانَيْن كبيرَيْن، فضلاً عن خبرة تفشي فيروس نيباه في عام 2018، على إضفاء الطابع المؤسسي على بروتوكولات إدارة الطوارئ الفعَّالة في الولاية التي أنشأت 15 مديرية ومنطقة صحية بها، غرف تحكم للرصد، وخصصت مستشفيات لمعالجة المرضى المصابين مع ظهور فيروس كورونا ومن قبل أن تسجل الولاية حالة إصابة واحدة.

كما جادل بعض العلماء بأن الانخفاض النسبي لمعدلات الوفاة والإصابة بكورونا في أفريقيا خلال الأشهر القليلة الأولى من الوباء، يرجع جزئياً إلى تجارب دول القارة مع تفشي الأمراض السابقة، مثل فيروسات زيكا وإيدز وإيبولا. ورغم نقص اللقاحات فإن تلك الدول امتلكت خبرة ومعرفة نسبية في تنفيذ الحجر الصحي والإجراءات الطبية تجاه فيروس كورونا، وحاولت تنفيذ دروس تلك التجارب للحد من انتشار الفيروس بقدر ما تسمح به قدراتها وإمكاناتها، فضلاً عن أن الدور الذي لعبته “المراكز الأفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها”، هو نتاج تأسيس الوكالة عام 2016 على ضوء تفشي فيروس إيبولا في الفترة بين 2014 و2016.

دروس كورونا

رغم الاختلافات بين الفيروسين، يمكن القول إن ثمة دروساً اكتسبتها حكومات العالم وأنظمتها الصحية والمواطنون من تجربة كورونا، وهي دروس تساعد نسبياً على التعامل مع “جدري القردة”. وبرزت في هيئة سلوكيات أو سياسات أو حتى مطالبات وتحذيرات، منها:

1– التعامل مع الفيروس كتهديد لتجنُّب تفاقمه وتحوُّره: رغم أن جدري القرود ليس بمستوى خطورة وانتشار فيروس كوفيد–19؛ الأمر الذي دفع بعض الدول نحو التعامل بدرجة من التساهل مع الفيروس أو عدم إعطائه الاهتمام الكافي، خاصةً في ظل عدم معاناة تلك الدول ومواطنيها من المرض بدرجة كبيرة، فإن ثمة اتجاهاً – خاصة في الدول الغربية المتقدمة – يرى أن القلق من “جدري القرود” والتعامل معه على أنه تهديد صحي، أمر ضروري للحيلولة دون تفاقم الخطر إلى درجة لا يمكن احتواؤها؛ فاستناداً إلى خبرة تحورات كوفيد–19، يتخوَّف أنصار هذا الاتجاه من أن يغير فيروس جدري القرود سلوكه أيضاً ويتحور إلى نسخة أكثر خطورةً؛ ولذلك يطالبون بضرورة التحرك لمواجهة الفيروس؛ حتى لا تتحول مناطق الإصابة إلى بؤر خطيرة وتتوسَّع دائرة الانتشار.

2– مطالبات باتخاذ إجراءات احترازية حيال المسافرين: اتخذت دول العالم إجراءات احترازية ووقائية وفرضت قيوداً على عمليات السفر والتنقل للحيلولة دون انتشار فيروس كورونا، فأجرت فحوصات للقادمين من أجل تجنب دخول المصابين إلى أراضي الدولة، فضلاً عن إجراءات الحجر الصحي، كما أعدَّت “قائمة حمراء” للدول التي توجد بها مُعدَّلات انتشار كبيرة للمرض. ورغم اختلاف طريقة انتقال جدري القرود عن كورونا، فإن خبرة كورونا دفعت البعض نحو المطالبة باتخاذ إجراءات مشابهة فيما يتعلق بعمليات السفر والانتقال بين الدول للحيلولة دون انتشار فيروس جدري القرود.

3– تحذيرات من تكرار تخزين اللقاحات المضادة للفيروس: في الوقت الذي أشارت فيه تقارير إلى تسابق الدول الكبرى الآن نحو توفير مزيد من جرعات اللقاح المخصص لعلاج جدري الماء، خشية نقصها فيما بعد إذا تحوَّلت الأزمة إلى جائحة؛ حرصت دول وجهات وإقليمية على التحذير من تخزين اللقاحات، خشية تكرر أزمة تخزين واكتناز اللقاحات فيما يتعلَّق بمواجهة جدري القرود؛ ما يؤثر على انتشار الفيروس وقدرات مواجهته بالتبعية؛ فقد حذَّر “المركز الأفريقي لمكافحة الأمراض والوقاية منها” من تخزين لقاحات جدري القرود؛ وذلك على لسان القائم بأعمال مدير المركز أحمد أوجويل أوما، الذي عبَّر عن أمله ألا يتكرر تخزين اللقاحات مع التفشي الحالي لمرض جدري القرود مثلما فعلت الدول الغنية خلال جائحة “كوفيد–19”.

4– استمرار الدور التوجيهي لمنظمة الصحة العالمية: كما كانت منظمة الصحة العالمية فاعلاً رئيسياً منذ اندلاع أزمة كوفيد–19، واختُصَّت بتحديد درجة خطورة وانتشار الوباء على مستوى العالم، والخطوات الواجب اتخاذها في كل مرحلة، وإصدار الإرشادات والتوجيهات للحكومات والمواطنين على السواء، بوصفها منظمة دولية متخصصة. فإن المنظمة أخذت على عاتقها أيضاً التفاعل مع فيروس جدري القرود، وتحديد مدى خطورته وانتشاره، حتى قررت في 23 يوليو الماضي، إعلان “حالة طوارئ صحية ذات بعد دولي” من أجل لفت الأنظار بدرجة أكبر تجاه الفيروس، ودق ناقوس الخطر، وتأكيد الحاجة إلى تعامل دولي منسق لمواجهة حالة الطوارئ الصحية التي تسبب بها جدري القرود.

5– ابتكار آليات تضمن استمرار الأنشطة الاقتصادية: إذ كشفت جائحة كورونا عن أهمية ابتكار آليات تضمن استمرار الأنشطة الاقتصادية في حال تفشي فيروس جديد، على غرار جدري القرود؛ فقد بدأت الكثير من الدول في إعادة تشكيل البنية الاقتصادية، من خلال تقليل المساحات التي يمكن أن تنتشر عبرها العدوى، وفي مقدمتها النقود التي ثبت أنها أداة من أدوات نقل بعض الأمراض داخل المجتمع، ولهذا بدأ العديد في المجتمعات الغربية يطالبون بضرورة تفعيل الخدمات المصرفية الرقمية digital banking وتوظيفها باعتبارها واحدة من أبعاد الاستجابة لأي حالات طارئة مثل جائحة كورونا، وهو ما يعني التوسع في إنشاء حسابات ومحافظ للأفراد للتعامل بعملات رقمية في كافة الأنشطة وعمليات الشراء والبيع. علاوة على ذلك، اكتسبت عملية الأتمتة Automation لبعض الوظائف المزيد من الزخم، وخاصةً في الدول المتقدمة؛ لأن استخدام الروبوتات وأجهزة الحاسب الآلي يمكن أن يقلل عدد الموظفين، ناهيك عن أن هذه الأجهزة لا تتعرَّض للعدوى مثل البشر.

وفي السياق ذاته، تزايدت أهمية إعادة تصميم أماكن العمل والمؤسسات، وهو ما يرتبط بفرضية “التصميم المرن” resilient design التي تم تطويرها بفعل الهجمات الإرهابية التي شهدتها الدول الغربية خلال العقود الماضية. ومن ثم، تطلبت تطوير عمليات تصميم المباني لتقليل حدة الأضرار ودعم إمكانية التعافي السريع للمؤسسات وصولاً إلى مستويات التشغيل العادي.

ولكن عند الحديث عن تأثيرات الجوائح، مثل جائحة كورونا، فإن عملية إعادة التصميم تنطوي على عدة أبعادٍ الهدفُ منها الحفاظ على التباعد الاجتماعي في المؤسسات في أوقات العمل العادية، وتقليل المساحات والأسطح التي يمكن أن تحمل العدوى للموظفين، وتصميم المكاتب بطريقة تحافظ على المسافات الآمنة بين الموظفين، مع إدراج النقاط المجهزة بمطهر اليدين والمناديل الورقية في التصميم الأساسي للمكاتب. وكذلك في المساحات المشتركة داخل المؤسسات، ينبغي أن يتوسع التصميم في تركيب الأدوات والتجهيزات التي لا تعمل باللمس، مثل مستشعرات الأبواب، والأحواض الأوتوماتيكية، وموزعات الصابون والمنظفات، والمصاعد التي تعمل بالصوت. وفي السياق ذاته، قد يلجأ المهندسون المعماريون أيضاً إلى تصميم مساحات بمواد البناء المتينة والأثاث والأرضيات والأسطح الأخرى التي يمكن أن تصمد أمام التنظيف العميق والمتكرر، الذي من المتوقع أن يكون ضرورة دائمة لمكان العمل المستقبلي لسنوات قادمة.

إصلاحات مطلوبة

رغم أن جائحة كوفيد–19 نبهت إلى بعض السلبيات، وحملت خبرة مواجهتها بعض نقاط الضعف التي كان من المفترض معالجتها عند مواجهة أي تحدٍّ صحي جديد، فإن أزمة “جدري القرود” كشفت عن استمرار بعض نقاط الضعف تلك في الاستجابات من جهة، وعن الحاجة إلى معالجة بعض الاختلالات التي تؤكدها الأوبئة من جهة ثانية، ومنها:

1– تأكيد الحاجة إلى مقاربة بيئية مختلفة: تؤكد الأوبئة المتكررة الحاجة العالمية إلى مقاربة بيئية مختلفة؛ فمثل سارس وكوفيد–19 وغيرهما، يُعَد جدري القرود أيضاً مرضاً حيواني المنشأ، انتقل إلى الإنسان من أنواع أخرى، وهو الحال مع ثلاثة أرباع الأمراض المعدية التي عرفتها البشرية مؤخراً؛ ما يشير إلى أزمة في التعامل البشري مع الحيوانات، وينبه إلى أن تغير النمط المعيشي لبعض الحيوانات ونقلها وقتلها وأكلها قد يؤدي إلى مزيد من الأمراض الحيوانية المنشأ، وحدوث طفرات غير متوقعة للفيروسات الحيوانية، وهو ما دفع نحو تزايد انتشار المقولات التي ترى أنه يجب التوقف عن تسليع الحيوانات، وأنه ينبغي التعامل معها باعتبارها كائنات شريكة على كوكب الأرض.

وقد حذر الدكتور مايك راين رئيس قسم الطوارئ في منظمة الصحة العالمية، من احتمالات تزايد تحورات الفيروسات الحيوانية المنشأ وانتشارها ما لم تتغيَّر طبيعة العلاقة بين البشر والحيوانات؛ حيث أشار إلى أن العلاقة بين الإنسان والحيوان أصبحت غير مستقرة، مؤكداً ازدياد عوامل انتقال المرض وتضخيمه وانتشاره بين البشر، كما هو الحال مع جدري القرود وغيره.

2– ضرورة طرح خطط لمشاركة اللقاحات مع الدول الأفريقية: مثَّل فيروس كورونا تحدياً لخطاب التضامن العالمي، مع محاولة الدول الغنية شراء أكبر كميات ممكنة من اللقاحات لتطعيم شعوبها وإنهاء الإغلاق بأسرع وقت، فيما كانت وتيرة التطعيمات في الدول الفقيرة بطيئة للغاية، واشتكت المبادرات التي تم تدشينها للتكافل العالمي لتوفير اللقاحات للدول الفقيرة من نقص الإمدادات. ورغم التحذيرات الأممية من تأثيرات تلك السلوكيات على الحالة الصحية العالمية، وتحوُّل بعض الدول الفقيرة إلى بؤر مرضية، وتهديد تلك السلوكيات مبدأ “جماعية النجاة” الذي ظنَّ البعض في بداية الجائحة أنها سترسخه؛ فإن ثمة مؤشرات على تكرار تلك السلوكيات في التعامل مع لقاحات جدري القرود؛ فبينما طلبت الدول الغنية ملايين اللقاحات لوقف انتشار جدري القرود داخل حدودها، لم يعلن أي منها عن خطط لمشاركة الجرعات مع الدول الأفريقية التي تشهد انتشاراً أوسع وأكثر فتكاً للمرض مقارنةً بالدول الغربية.

وقد حذَّر مسؤولو الصحة العامة من أن التحرُّكات التي اتخذتها الدول الغنية لشراء كميات كبيرة من لقاح جدري القرود، مع رفض مشاركة الجرعات مع الدول الأفريقية التي بدأ المرض بها وانتشر فيها؛ قد تترك ملايين الأشخاص غير محميِّين من نسخة أكثر خطورةً من المرض، فتتسع دائرة انتشار المرض. وقال الدكتور “بوجوما كابيسين تيتانجي” الأستاذ المساعد في الطب بجامعة إيموري الأمريكية إن “الأخطاء التي رأيناها أثناء جائحة كوفيد–19 تتكرر بالفعل”، مشيراً إلى أن “الدول الأفريقية التي تتعامل مع تفشي مرض جدري القردة لعقود، قد أهملت وهُمِّشت في المحادثات حول الاستجابة العالمية”.

3– لفت الانتباه إلى ضرورة تعزيز الأنظمة الصحية: كشفت جائحة “كوفيد–19” عن أوجه قصور كبيرة في أنظمة الصحة العالمية، ولفتت الانتباه إلى ضرورة تعزيزها وتطويرها، وأشارت بوضوح إلى حاجة العالم ودوله المختلفة إلى تطوير منظوماتها الصحية، وتعزيز قدرتها على الاستجابة للطوارئ الوبائية، وإلى وجود آلية تنسيقية بين الدول بشأن مسألة اللقاحات والدواء، وتطوير آليات تصنيع وتوزيع اللقاحات، وخاصةً ضد الأوبئة الطارئة. وقد دعا المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم جيبريسوس، في يناير 2021، إلى معاهدة جديدة بشأن الأوبئة، فضلاً عن مقترح “بيل جيتس” الذي دعا إلى إنشاء وكالة عالمية لمكافحة الأوبئة.

وأشار ثلاثة خبراء في الصحة العالمية، عبر مقال نشره الموقع الرسمي للأمم المتحدة، في مايو 2020، إلى أن تحديث النظام الصحي العالمي لتحسين التأهب للجائحة القادمة، سيتطلَّب زيادة الاستثمار في البحث والتطوير الخاص بالأدوية واللقاحات ووسائل التشخيص ضد الأمراض المعدية المستجدة، وتخزين أدوات مكافحة الجوائح، بما في ذلك معدات الحماية الشخصية للعاملين الصحيين، وإنشاء “قدرة احتياطية” عالمية للسماح بالتصنيع العاجل للقاحات، وتمويل منظمة الصحة العالمية لتكون قادرة على أداء واجباتها الرئيسية.

وبقدر ما يشير وباء جدري القردة إلى عدم تقدم العالم على طريق طموحات ووعود إصلاح وتطوير الأنظمة الصحية على نحو ما كان متوقعاً عقب صدمة كوفيد–19؛ فإنه يُعيد تأكيد أهمية هذه الإصلاحات، ويلفت إليها النظر مرةً أخرى، ويؤكد ضرورة تطوير أنظمة طبية قادرة على التنبؤ بالأوبئة والاستجابة لها.

4– نشر الوعي الطبي تجاه الأوبئة ومواجهة الوصم: ثمة أهمية أكدها انتشار فيروسَي كورونا وجدري القيود لنشر الوعي وتعزيز الوعي المجتمعي فيما يتعلق بالأوبئة؛ فمن ناحية ثمة أهمية لتعزيز الالتزام المجتمعي بالإجراءات الاسترشادية التي تُعلنها المؤسسات الطبية المحلية والعالمية، حتى من دون تخصيص جانب من قدرات الضبط والقوة الحكومية لإلزام المواطنين بتلك الإجراءات؛ وذلك لضمان التزام معظم المواطنين بالإجراءات الطبية اللازمة والإبلاغ عن حالات المرض وتلقي اللقاحات والأدوية لخفض احتمالات اتساع وانتشار الأمراض الوبائية في ظل تزايد وتكرار ظهورها. ومن جهة أخرى، فإن نشر الوعي الوبائي يرتبط بمواجهة الوصم من الناحية الثقافية، سواء ارتبط بالمرض في حد ذاته ودفع المريض إلى إخفاء إصابته، أو ارتبط بعوامل ثقافية تربط المرض بسلوكيات أخرى كلياً أو جزئياً، باعتبار أن بعض أو معظم المرضى ينتمون إلى شرائح معينة، مثلما هو الحال مع “جدري القرود”.

5– أهمية إبعاد السياسات الوقائية عن الاعتبارات الأيديولوجية: كان من المبادئ التي جرى تأكيدها مراراً خلال جائحة كورونا، اتباع العلم وإعطاؤه الأولوية على الاعتبارات الأيديولوجية، والحيلولة دون امتداد التسييس إلى الوباء وسبل مواجهته بالشكل الذي يضر بعملية المواجهة ويعرقلها، سواء بتفسيرات غير علمية للوباء، أو بتقديرات غير علمية لحدوده ومدى احتمالية التأثر به أو بمواقف غير علمية من سبل المواجهة، وهي التفسيرات التي تكون نابعة من قناعات أيديولوجية. وقد احتلت المواقف الثقافية المرتبطة بتفسيرات دينية حيزاً مهماً من هذا الجدل، بجانب بعض مواقف الأيديولوجيات الأخرى التي وُصفت بـ”معاداة العلم” والشعبوية، فضلاً عن ظاهرة تسييس الوباء بوجه عام.

وفي مواجهة جدري القرود، يبدو أن العالم لم يستوعب بالقدر الكافي هذا الدرس في سياساته وممارساته على الأقل؛ فقد انتقد الكاتب “روس دوثات”، في مقاله المنشور بصحيفة نيويورك تايمز، في أغسطس 2022، تحت عنوان “مراكز السيطرة على الأمراض تواصل القيادة من الخلف”، ظهور ما وصفه بـ”مشهد أيديولوجي سخيف”؛ حيث عانى مسؤولو الصحة لتوضيح أن جدري القردة الآن يُعتبَر في المقام الأول تهديداً للمثليين. وانتقد الكاتب استمرار احتفالات ما يُعرَف لدى المثليين بـ”شهر الفخر”، واعتبر ذلك تكراراً للفشل في مواجهة كوفيد–19، وعدم استفادة من دروس الجائحة، وهو ما يرجع إلى عوامل سياسية وأيديولوجية؛ حيث انتقد الكاتب القلق السياسي من قول أو فعل أي شيء قد يبدو أنه يصم المثلية الجنسية، والخوف من توجيه الانتقادات إلى قضايا تُعتبر في المجتمع الأمريكي “تقدُّمية” من الناحية الأيديولوجية، حتى لو كانت تلك الانتقادات وجيهةً وضروريةً من الناحية الصحية.

ختاماً.. ثمة عدد من الدروس المُعلَّقة التي لم يسمح فيروس جدري القرود باختبارها في ظل اختلافه عن كورونا من حيث الطبيعة والانتشار والخطورة وإجراءات المواجهة. وفي الوقت الذي يمكن فيه القول إن توالي الجوائح والأوبئة يساعد بطريقةٍ ما على ترسيخ ذاكرة وبائية أو مؤسسية تساعد المجتمعات والدول على توظيف ما تُعرف بـ”خبرة الأوبئة” التي تتمكَّن عبرها من تطوير آليات عملها في مواجهة الأوبئة؛ فإن ذلك يعتمد على مدى استفادة الدول والمجتمعات من تلك الحوادث والأوبئة بالدرجة التي تمكنها من تشكيل خبرة وذاكرة تُتَرجم إلى آليات عمل وسياسات. ولكن على الجانب الآخر، يخلق تكرار الأوبئة والأزمات الصحية في مجتمعات معينة مخاوف لدى الخبراء من اعتياد تلك المجتمعات الوباءَ بالدرجة التي تُثبِّط من محاولات اتباع النهج الصحي تجاه الأوبئة، وهو ما حدث في بعض المجتمعات مع طول أمد جائحة كورونا؛ حيث تراجع – على سبيل المثال – الالتزام بالإجراءات الاحترازية.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)