عبد الحليم قنديل يكتب: ما بعد اتفاق السودان

profile
  • clock 10 ديسمبر 2022, 7:01:19 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

هل يكون توقيع الاتفاق الإطاري الأخير خاتمة لعذاب السودان؟ ثمة آمال عريضة في أن يكون الأمر كذلك، خصوصا عند الذين تصوروا، أن محنة السودان محصورة في نزاع بين مدنيين وعسكريين، الأخيرين من جهتهم، سواء في القيادة العامة للقوات المسلحة برئاسة الجنرال عبدالفتاح البرهان، أو في «قوات الدعم السريع» بقيادة محمد حمدان «دقلو»، كانوا الأكثر حماسا لتوقيع الاتفاق الإطاري، الذي يُخرج العسكريين بالجملة من المشهد السياسي، ويسعى لتشكيل حكومة مدنية كاملة، تؤول إليها إدارة مرحلة انتقالية على مدى سنتين مضافتين، تزيد بهما سنوات المراحل الانتقالية إلى ست سنوات، وتمهد لإجراء انتخابات عامة، ربما في أواسط عام 2025.
ومع ما أثاره توقيع الاتفاق من ظواهر تفاؤل، وتأييد إقليمي ودولي واسع، سواء من بعثة الأمم المتحدة، أو من الرباعية الدولية المعنية (أمريكا وبريطانيا والسعودية والإمارات)، أو من دوائر الاتحاد الافريقي، إضافة للسياسة المصرية التي سارعت بالترحيب كالعادة، وكلها قوى دفع معاونة لإنقاذ السودان، لكن المهمة بالطبع تظل بيد أهلها السودانيين، وبالذات في يد المدنيين والقوى الموصوفة بالمدنية، وأغلبها للأسف على أحوال انشقاق لا تنتهي، ومعها شوارع الخرطوم، التي لا تهدأ مظاهراتها واحتجاجاتها، على وقع أحوال اقتصادية واجتماعية فادحة التدهور، وتكاثر مجازر الدم، ليس بسبب المواجهات والمظاهرات وحدها، بل لأسباب صدام قبلي وعرقي، في دارفور غرب السودان، وفى مناطق النيل الأزرق في الوسط، وفى الشرق المهمش المقصى عن قسمة الثروة والسلطة منذ إعلان الاستقلال السوداني، وكلها أزمات معقدة، أرخت ظلالها على حدث توقيع الاتفاق الإطاري، المفترض توسيع دائرة النقاش والاتفاق حوله في الأسابيع المقبلة، كما يقول موقعو الاتفاق من المدنيين، وهم أطياف متنوعة، تجتمع في الأساس حول «حزب الأمة القومي»، الجماعة الأكبر بين انشقاقات «حزب الأمة» التاريخي الطائفي العتيد، ويقودها أبناء الراحل الصادق المهدي، وقد كان رئيس الوزراء المنتخب الذي انقلب عليه عسكر حسن البشير، وبتدبير من جماعة الإخواني الراحل حسن الترابي.

يبدو أن محنة السودان هي في الضعف البادي لجهاز الدولة في الجيش والخدمة المدنية، وتواضع مقدرته على دمج ومزج التنوع في السودان، وإدارة موارده الطبيعية

وظل الانقلاب «الإسلامي» في الحكم لثلاثين سنة، خسر فيها السودان ثلث أراضيه بانفصال واستقلال دولة جنوب السودان، وكادت تنفصل منطقة دارفور في الغرب، ومساحتها أكبر من مساحة فرنسا، ومع جماعة «حزب الأمة القومي»، وقعت على الاتفاق الإطاري مجموعات متعددة، منضوية حتى اليوم في ما يسمى «المجلس المركزي» لتحالف الحرية والتغيير وخارجه، كأحزاب «المؤتمر السوداني» و»التجمع الاتحادي» و»المؤتمر الشعبي» (جماعة الترابي) و»الحزب الاتحادي» (جماعة حسن الميرغني) وبعض «أنصار السنة» و»التحالف الوطني السوداني» و»الجبهة الثورية» (جناح الهادي إدريس) وجناح من «حزب البعث» و»تجمع المهنيين» (ب) وغيرها، في حين قاطعت الاتفاق جماعات حزبية مدنية وجهوية متناقضة، أبرزها حسب موقع صحيفة «الراكوبة» السودانية، الشق الآخر من تحالف الحرية والتغيير، المعروف باسم «الكتلة الديمقراطية» بقيادة مني أركو ميناوي وجبريل إبراهيم و»تجمع المهنيين» (أ) و»الحزب الاتحادي الأصل» بقيادة جعفر الميرغني ورئيس تنسيقيات شرق السودان الناظر ترك، و»نداء أهل السودان» و»التيار الإسلامي العريض» و»الحزب الشيوعي»، و»البعث العربي الاشتراكي» ولجان المقاومة في الخرطوم، وقوى «الحراك الوطني» بقيادة التيجاني السيسي، وفرق منشقة عن «حزب الأمة» وغيرها كثير، والمقاطعون كما هو ظاهر، من اليمين ومن اليسار، ومن الراغبين في تغيير راديكالي عنيف، ومن مجموعات أقرب ولاء لنظام البشير المخلوع، إضافة بالطبع لجماعات مسلحة في دارفور والجنوب، أبرزها جماعة «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بزعامة عبد العزيز الحلو، و»حركة تحرير السودان» بقيادة عبد الواحد نور، وقد عارض الحلو ونور، كل مسار انتقال السودان، ورفضوا الانضمام لوثائقه، من أول «الوثيقة الدستورية» أغسطس/آب 2019، إلى «اتفاق جوبا» للسلام أكتوبر/تشرين الأول 2020، والاتفاق الإطاري الأخير طبعا، وهكذا يبدو المشهد السوداني ناطقا طافحا بتناقضاته، وحدة الصراع بين الأطراف الموصوفة بالمدنية أو بحمل السلاح، وربما يفسر ذلك بعضا من سلوك الجنرال البرهان قائد الجيش ورئيس المجلس السيادي الانتقالي حتى إشعار آخر، فقد أطاح الرجل بحكومة المدني عبد الله حمدوك في أكتوبر 2021، ثم عاد لاتفاق تعاون قصير الأمد معه، وإلى أن استقال حمدوك تحت ضغط غضب الشارع، الذي اتهمه بممالأة «انقلاب البرهان»، ثم تفاقمت وتناسلت انشقاقات كتلة الحرية والتغيير التي قادت الثورة، ولجأت بعض أطرافها إلى مساندة الجيش وقيادة البرهان، الذي بدا على قدر ملحوظ من المهارة السياسية، وأعرب قبل شهور عن رغبته في إخراج الجيش من المشهد السياسي، ودعا الأطراف المدنية لاتفاق في ما بينها، كان يعرف مدى صعوبته وربما استحالته، وهو ما تكشف بالفعل مع الخلاف الساخن الراهن بعد توقيع الاتفاق الإطاري، الذي يخرج البرهان نفسه من رئاسة السلطة، ويحصر وجود قادة الجيش في «مجلس الأمن والدفاع» برئاسة رئيس الوزراء المدني المفترض، وينص في الوقت نفسه على تنقية الجيش من أي وجود سياسي حزبي، في إشارة إلى حق قيادة الجيش في مطاردة والتخلص من أي مجموعات انقلابية، وكأن البرهان حرص على كسب الاستقلال بالجيش مقابل خروجه من دوامات السياسة، التي لا يرجح أن تتفق أطرافها المدنية على شيء جوهري، خصوصا حين تتطور العملية إلى اختيار اسم لرئيس الوزراء المدني القادم، بافتراض نجاح مشاورات لاحقة لتوقيع الاتفاق الإطاري، وانضمام معظم المقاطعين حاليا إليه، وإجراء تعديلات عليه، تمهد لدستور انتقالي، لا تبدو معضلاته قابلة لتوافق جامع، وفي نصوص حاكمة، من نوع نص اتفاق الإطار على وقوف الدولة على مسافة واحدة من الأديان كلها، أو في ترجمة نص الاتفاق على كون السودان «دولة مدنية فيدرالية»، أو في قضايا تظل معلقة، كمسائل العدالة الانتقالية وإصلاح قطاع الأمن وغيرها، إضافة لاحتمالات تفجر حوادث صدام دموي، باتت مألوفة متواترة، وكل ذلك قد يطيل فترة ما قبل الوصول لاتفاق نهائي أكثر شمولا، ويستبقي وضع السلطة الحالي لوقت غير معلوم، يبدي فيه الجنرال البرهان ضجره من خلافات السياسيين المدنيين، ويوالي نداءاته لهم بتسريع مناقشات التوافق، ويستعجل إجماعهم لنقل كراسي الحكم إلى سلطة مدنية كاملة، وهكذا يبدو البرهان في صورة المتجرد النزيه الساعي لمصلحة السودان وأهله، بينما تبدو القوى المدنية «متشاكسة» إلى ما لا نهاية، مع ضيق الناس من تمديد زمن الفترة الانتقالية، وتفضيل معظم الأطراف المدنية الموافقة والمقاطعة، أن لا تجري الانتخابات العامة سريعا، وتفقدها النفوذ المفترض في الوضع القائم الرجراج.
والمعروف أن السودان الشقيق منذ إعلان استقلاله في أول يناير/كانون الثاني 1956، عانى من دورات حكم خبيثة متكررة بين مدنيين وعسكريين، بين ديكتاتورية عسكرية، تسبقها وتعقبها أخرى مدنية، وقد حكم العسكر في أغلب الفترات، ولعبت الأحزاب المدنية دورا ملموسا في الدفع إلى انقلابات العسكريين، على طريقة دعم «حزب الأمة» لانقلاب الجنرال عبود، ودعم الحزب الشيوعي والناصريين لانقلاب النميري، ودعم «الجبهة القومية الإسلامية» لانقلاب البشير، ومن دون أن تحقق فترات الحكم العسكري ولا الحكم المدني تطورا ظاهرا، فأصل محنة السودان فيما نظن، هو الضعف البادي لجهاز الدولة في الجيش والخدمة المدنية، وتواضع مقدرته على دمج ومزج التنوع في السودان، وإدارة موارده الطبيعية العظيمة الثراء، وحفظ الحد المطلوب من تماسك الوطن الواسع الجغرافيا، رغم الحيوية السياسية الفياضة للسودانيين عموما، ولنخبهم المثقفة الجريئة، وهو ما لا تبدو عوائده كافية لصناعة سودان جديد موحد، حتى مع التقدم المحرز في تقويض ثقافة الانقلابات العسكرية، وفسح المجال لقيام حكومة مدنية خالصة، فالعلل المعيقة لا تزال منظورة، في مشهد التفتت السياسي وانشقاقات الأحزاب التاريخية التقليدية، وقد نهضت طويلا على قاعدة التوزع الطائفي بين «المهدية» و»الختمية»، وبين حزبي «الأمة» و»الاتحادي»، رغم جهود التحديث في «حزب الأمة» وقت قيادة الصادق المهدي، وتشظي «الحزب الاتحادي» المتفلت من سيطرة عائلة الإمام الميرغني، وتفرق أهواء أفراد العائلة ذاتها، ولا يبدو الحال أفضل كثيرا في الأحزاب الحديثة، خصوصا مع سيطرة نزعة دينية تقليدية على الكثير من جماعاتها، قد لا تفيد كثيرا في ضمان وحدة السودان، بقدر ما تضاعف من تمزقه، وعلى نحو ما انتهت إليه تجربة حكم البشير والترابي، وهو ما قد يعاود ظهوره من وراء ستار الحكم المدني، ويدخل البلد من جديد في دوائر زمن مفرغة، جاءت على حساب وحدة السودان وتنميته وتطوره، ودفعته إلى احترابات مهلكة، ندعو الله أن ينجي السودان والسودانيين من شررها وشرورها.
كاتب مصري

التعليقات (0)