د. سنية الحسيني تكتب: إسرائيل الاستثناء الوحيد في السياسة الأميركية الشرق أوسطية المتحولة

profile
د. سنية الحسيني كاتبة وأكاديمية فلسطينية
  • clock 30 سبتمبر 2021, 8:10:11 م
  • eye 22271
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

في مقال سابق كتبته حول سياسة الولايات المتحدة المتحولة تجاه منطقة الشرق الأوسط، أحاولت أن أبين بالشواهد كيف حدث ذلك التحول، بعد أن غرقت تلك المنطقة بالفوضى، وانخفضت حاجة الولايات المتحدة لنفطها، الذي استنزف ببذخ خلال العقود الماضية، واكتشفت بدائله. الا أن السياسة الأميركية تجاه إسرائيل وما يدور في فلكها بقيت الاستثناء الوحيد في إطار تلك السياسة المتحولة. 

ولا ينفصل ذلك الاستثناء عن الالتزام التاريخي الأميركي المعنوي والمادي لإسرائيل، كحليفة وشريكة أولى لها عالمياً، والذي لا ينفصل ذلك الالتزام بدوره عن الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، والتي لم تفقد زخمها، بعد أن باتت إسرائيل جزءاً رئيساً فيها.

وتساهم الولايات المتحدة عملياً وكقاعدة ثابتة في ضمان أمن إسرائيل واستمرار وجودها، والذي يمكن ترجمته عملياً، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدعم سياسي واقتصادي وعسكري، لم يحصل عليه بلد آخر في التاريخ. وساهمت الولايات المتحدة بثبات بدعم إسرائيل سياسياً، من خلال استخدام ثقلها السياسي، كدولة عظمى، للضغط على دول المنطقة للانخراط في إطار عمليات سلمية تفاوضية، طوال العقود الماضية، لاعتقادها أن ذلك يضمن لإسرائيل البقاء والتعايش في ظل منطقة تعد إسرائيل عنصراً غريباً عنها، وعدوة فيها، لاحتلالها جزءاً منها. في المقابل، وعلى الرغم من كون الولايات المتحدة وسيط السلام بين تلك البلدان العربية وإسرائيل، تحارب الولايات المتحدة معركة دبلوماسية لا تنتهي في أروقة الأمم المتحدة والمنظمات والمؤسسات الدولية، للتغطية على سياسات إسرائيل العدائية بحق تلك الدول العربية، وحمايتها من المحاسبة، التي تطالب بها الأغلبية العظمى من دول العالم، والتي تترجمها مشاريع القرارات العديدة التي تسقطها الولايات المتحدة سنوياً، في سبيل حماية إسرائيل. وتتمثل المساعدات العسكرية الأميركية الاستثنائية والخاصة لإسرائيل، بحصولها على الأسلحة الأكثر حداثة وتطوراً على مستوى العالم، والذي يصعب على إسرائيل الحصول عليها من أي مصدر آخر، ناهيك عن المساعدات الأخرى في المجال الاستخباري والنووي. وتعد المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل جزءاً من مساعدة مالية اقتصادية أكبر، وتعد الأضخم على مستوى العالم، مقارنة بأي مساعدة اقتصادية أخرى تقدمها الولايات المتحدة لأي من دول العالم.

ثوابت مهمة تربط الولايات المتحدة بإسرائيل، تفسر ذلك الدعم الأميركي المادي المطلق لإسرائيل، حيث تتشابك في إطارها الاعتبارات الأيديولوجية بالاعتبارات المادية المبنية على المصالح. وتعود الاعتبارات الأيديولوجية التي تربط أميركا بإسرائيل بأصول المجتمع الأميركي، والتي جاءت في الأساس كجماعة أوروبية مهاجرة تنتمي غالبيتها إلى المسيحية البروتستانتية، والتي تؤمن بفكرة عودة اليهود لفلسطين لاعتبار واعتقاد ديني. 

وتعد الجالية اليهودية في الولايات المتحدة الأكبر على مستوى العالم، يعادل في إطارها عدد اليهود ذلك العدد الموجود في إسرائيل تقريباً، وتتميز تلك الجالية بقدرات تأثير عالية في الحياة السياسية الأميركية، خصوصاً لاعتبارها جزءاً فاعلا في المجتمع الأميركي وليست دخيلة عليه.


كما تعد إسرائيل، من وجهة نظر الولايات المتحدة، حاملة لواء الديمقراطية الليبرالية التي تمثل منظور القيم التي تتبناها وتروج لها الولايات المتحدة. ولا تقل الأهمية الاستراتيجية لوجود واستمرار بقاء إسرائيل في المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة عن الأهمية الأيديولوجية، وإن لم تكن أكثر أهمية. ساهم وجود إسرائيل، الحليف المؤتمن للولايات المتحدة، في احتفاظها بتوازن مهم في منطقة الشرق الأوسط، في إطار مناورات الحرب الباردة، خصوصاً في عهد تحالف الدول العربية الكبرى مصر والعراق وسورية مع الاتحاد السوفيتي.

ورفعت انتصارات إسرائيل العسكرية على دول المنطقة من قيمتها وأهميتها الاستراتيجية لدى الولايات المتحدة. ورغم انتهاء الحرب الباردة، بقيت إسرائيل الحليف الأهم والأقرب للولايات المتحدة، والتي ساهمت في تنفيذ استراتيجيها لإعادة التموضع في المنطقة، من خلال سياستها المعلنة في الشرق الأوسط والمعرفة بالحرب على الإرهاب، والتي أغرقت المنطقة بالفوضى، التي خلقت واقعاً جديداً فيها يميل بشدة لصالح إسرائيل.

بعد قيام دولة إسرائيل، بذلت الولايات المتحدة الكثير من الجهود للتوسط في حل الصراع العربي الإسرائيلي، خدمة لإسرائيل وحماية لها ولضمان بقائها. جاءت أول مبادرة أميركية للسلام، في أعقاب حرب عام ١٩٦٧، من خلال وليام روجرز وزير الخارجية الأميركي عام ١٩٦٩، أرست الأسس لوساطة أميركية حصرية بعد ذلك، رغم عدم نجاحها.

بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣، انتجت جهود هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي للتوسط بين إسرائيل ومصر توقيع معاهدة سلام عام ١٩٧٩. وامتدت مسيرة الوساطة الأميركية لتحقيق السلام بين إسرائيل ومحيطها العربي منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا. وفي تناقض ظاهر حمت الولايات المتحدة إسرائيل سياسياً ودبلوماسياً، عبر كل تلك السنوات الماضية، من خلال سلطاتها كأحد القوى الدائمة العضوية التي تمتلك حق الفيتو، لضمان عدم محاسبة إسرائيل على انتهاكاتها بحق الدول العربية وشعوبها، التي تسعى للتوسط لتحقيق السلام بينها وبين إسرائيل، سواء بضمان عدم اصدار قرارات من مجلس الامن تدين إسرائيل أو تحويل تقارير وقرارات مجلس حقوق الإنسان إلى المحاكم لمحاسبة إسرائيل.

وتصدر الجمعية العامة سنوياً معظم قرارات الإدانة ضد ممارسات إسرائيل كقوة احتلال، منذ عام ١٩٦٧، اذ أدانت ٨١ بالمائة من قراراتها ما بين عامي ٢٠١٢ و٢٠١٩ إسرائيل فقط على ممارساتها الاحتلالية، في ظل عدم تأييد معظم دول العالم لسياساتها، باستثناء الولايات المتحدة وعدد محدود من الدول. 

كما نجحت الولايات المتحدة بإحباط المسار الطبيعي للتقارير التي صدرت عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، التي تتعلق تقاريره وقراراته بقواعد الحرب في مناطق الصراع، وأدانت إسرائيل وأصدرت قرارات مناهضة لها وأنشأت لجان تحقيق في انتهاكاتها، حيث تعلقت نصف القرارات التي صدرت عنه بإسرائيل.


أنشأ مجلس حقوق الإنسان ثلاث لجان تحقيق في جرائم الحرب التي اقترفتها إسرائيل خلال اعتداءاتها العسكرية على قطاع غزة. جاء تقرير غولدستون شهر أيلول من عام ٢٠٠٩، حول جرائم إسرائيل في حربها على غزة ما بين ٢٧ كانون الأول عام ٢٠٠٨ و١٨ كانون الثاني ٢٠٠٩، والذي اتهمها بارتكاب جرائم الحرب، حيث ارسل المجلس التقرير بدوره إلى الجمعية العامة التي أيدته بالأغلبية، الا أنه لم يتم استكمال الاجراء بتحويله إلى المحكمة الجنائية الدولية، لأن ذلك يحتاج إلى قرار من مجلس الأمن، والذي كان سيعطل بسبب الفيتو الأميركي، حيث انتقدت إدارة أوباما التقرير صراحة، وهددت باستخدام حق النقض لإحباط وصوله إلى المحكمة الجنائية الدولية.

جاءت لجنة التحقيق الثانية من قبل مجلس حقوق الإنسان، في عهد إدارة الرئيس أوباما أيضاً، للتحقيق في الحرب التي شنتها إسرائيل عام ٢٠١٤ على غزة، والتي قدمت تقريرها منصف العام التالي، حيث اتهم إسرائيل أيضاً بارتكاب جرائم حرب. ودعا المجلس الذي أقر التقرير، إلى محاكمة قيادات الاحتلال المسؤولة عن تلك الجرائم، الا أنه واجه نفس المصير السابق. وفي عهد الرئيس ترامب، قدم اقتراح لمجلس الأمن عام ٢٠١٨ لتشكيل لجنة تحقيق في ممارسات إسرائيل بحق الفلسطينيين العزل، خلال مسيرات العودة، احبطته الولايات المتحدة، كما أحبطت مقترحاً آخر دعا لتوفير قوات دولية في غزة لحماية سكانه. ولاقى تقرير مجلس حقوق الإنسان للتحقيق في ذات الموضوع، نفس مصير التقارير السابقة بسبب سلطة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة.

هدفت المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل خلال عقدي الخمسينات والستينيات من القرن الماضي لضمان مساعدة إسرائيل لردع أي محاولة عربية لاسترجاع فلسطين، فكانت أسلحة رادعة أكثر من كونها أسلحة هجومية، كصفقة صواريخ هوك المضادة للطائرات خلال عام ١٩٦٢، ثم تطورت تلك المساعدات باتجاه أسلحة الهجوم، كصفقة الدبابات والطائرات المقاتلة الحديثة عام ١٩٦٤.

بعد انتصارها في حرب عام ١٩٦٧، باتت الولايات المتحدة تقدر مكانة ووجود إسرائيل إستراتيجياً في المنطقة، كحليف يعتمد عليه، في مواجهة تحالفات الدول العربية المركزية مع الاتحاد السوفيتي. بعد حرب عام ١٩٧٣، عملت الولايات المتحدة على ضمان التفوق العسكري النوعي لإسرائيل في المنطقة، ليس فقط من خلال ضمان وصول سلاح أقل تطوراً للدول المحيطة بها، وإنما أيضاً من خلال مساعدتها في بناء ترسانة صناعة عسكرية.

ومنح رونالد ريغان الرئيس الأميركي السابق إسرائيل مكانة الحليف الرئيس من خارج الناتو عام ١٩٨٧، الأمر الذي مكن إسرائيل لتصبح شريكاً في الصناعات العسكرية الأميركية. ورسمت الولايات المتحدة مساعدتها العسكرية لإسرائيل رسمياً، ابتداءً من عام ١٩٩٠، من خلال مذكرات تفاهم لمدة عشر سنوات، مع بقاء ضرورة إقرار الكونجرس تلك المساعدات سنوياً، في ظل دعم الحزبين الديمقراطي والجمهوري لإسرائيل.

شهدت حقبة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، والتي دشنت الإرهاصات الاستراتيجية المتحولة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، تطورا جديدا، حيث تحولت مذكرات التفاهم بين الإدارة الأميركية والحكومة الاسرائيلية إلى عقد ملزم، وقع في نهاية شهر أيلول عام ٢٠١٦، بقيمة بلغت ٣٨ مليار دولار، تغطي الفترة الواقعة ما بين عامي ٢٠١٩ و٢٠٢٨، بحيث تبلغ قيمة المساعدات السنوية لإسرائيل ثلاث مليارات دولار، بالإضافة إلى نصف مليار دولار لتطوير القدرات الدفاعية الصاروخية.

وتحتفظ الولايات المتحدة كذلك بمستودعات معدات عسكرية في إسرائيل، مخصصة للاستخدام في حالات الطوارئ من قبل البلدين، وحصلت إسرائيل على إذن من إدارتَي بوش الابن وأوباما، لاستخدامها خلال حرب لبنان الثانية عام ٢٠٠٦، وخلال حربها على غزة عام ٢٠١٤.

إن تلك المميزات العسكرية الأميركية الاستثنائية لإسرائيل تمتد أيضاً في مجال تبادل المعلومات الاستخباراتية والحرب الإلكترونية والتكنولوجيا النووية. وأظهرت الولايات المتحدة تفهمها لرغبة إسرائيل بامتلاك ترسانة نووية عسكرية، ابتداءً من عام ١٩٦٩، رغم رفضها لذلك التوجه عندما بدأت إسرائيل بتحقيقه، بمساعدة فرنسا، خلال خمسينيات القرن الماضي، حيث تعهد الرئيس الأميركي في حينه ريتشارد نيكسون في ذلك العام شفوياً بعدم إجبار إسرائيل على الانضمام إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، أو فتح مفاعل ديمونا للرقابة الدولية. وبقي ذلك الدعم والمساندة الأميركية ثابتة بعد ذلك، بما فيها إدارة الرئيس أوباما، التي شاركت مع إسرائيل في الهجوم الالكتروني على نظام حوسبة البنية التحتية النووية الإيرانية عام ٢٠١٠. 

كما أحبطت إدارة أوباما اقتراحاً مصرياً لإجبار إسرائيل على فضح تطور برنامجها النووي، خلال مؤتمر توقيع على معاهدة حظر الانتشار النووي عام ٢٠١٥. ومن الممكن استيعاب توجه إدارة أوباما بتوقيع الاتفاقية النووية مع إيران في ذلك العام، والتي تتعارض مع الرغبة الإسرائيلية، في إطار الاتفاق على الهدف، مع اختلاف وسيلة التنفيذ.

إن إسرائيل لا تخضع للاعتبارات الاستراتيجية الأميركية لمنطقة الشرق الأوسط، إسرائيل تخضع لاعتبارات الشراكة الإستراتيجية الخاصة كحليف الولايات المتحدة الأول في العالم، ورغم ذلك ليس هناك ثوابت في السياسة الدولية، وتبقى المصالح لها الأولوية على الاعتبارات الأيديولوجية.


* د. سنية الحسيني – كاتبة وأكاديمية فلسطينية.

التعليقات (0)