أحدث الموضوعات
9 ديسمبر 2024
ينغلق على المتأمل فهمُ ما يحصل اليوم في عالم الإعلام من تطورات سريعة، فحيثما يُوَلّي الإنسان وجهه يجد صورا مبثوثة تخبره بما حصل في الماضي القريب أو البعيد، أو ما يحصل على المباشر في أماكن أخرى. ويدعونا هذا إلى التفكير في طبيعة الخبر نفسه، وكيف أصبح مفهومُه يَتقَلّب مع تطور وسائل الإعلام التكنولوجية. فمعلوم أن تكنولوجيا التصوير ونقل الصورة ساهمت في توسيع معنى الخبر، بحيث أصبح خبرا كلُّ محسوسٍ بصري تتناقله عدسات الكاميرا ليصل عين الإنسان، كما أن هذه التكنولوجيا غيرت معنى الحقيقة ذاتها ومنظومة القيم المرتبطة بها.
كان ما يراه المسلمون في المدينة المقدسة "مكة" عندهم مختلفا تمام الاختلاف عما يراه غير المسلمين من الرحالة المتسللين تحت أسماء عربية مستعارة مثلا. يختلف الإخبار وتختلف الأوصاف والمكان واحد
الأصل في الإعلام -قبل أن تتوسع مدلولاته- أنه ينقل الخبر، والأصل في الخبر أنه يحتمل الصدق والصواب، كما يحتمل الكذب والخطأ. وكلما عاين المُعْلِم الحدث -أي رآه بأم عينه- كان أقرب إلى الإخبار بحقيقته، من غيره ممن لم يعاينه. فاقتران صدق الخبر بحاسة النظر شيء يقبله الحدس الطبيعي. إلا أن معاينة الحدث والإخبار عنه شيئان مختلفان. فإذا كان الحدث واحدا فإن أساليب الإخبار به تختلف باختلاف أساليب المتحدثين وطرائقهم في الوصف والتعبير وميولاتهم الذاتية في تمثل الأشياء وحقائقها.
كثيرا ما يتجاوز الإنسان حدود الحقيقة الموضوعية وهو يصف ما يرى، إما لفرط إعجاب أو من هول صدمة أو ما شابه ذلك. حتى أن الإخبار عن بعض الأماكن يطغى عليه الوصف الشعري أكثر من أي لغة أخرى، فيكون في هذه الحالة إخبارا عن حالة المُخبِر الشعورية والنفسية أكثر مما يكون إخبارا عن حقيقة المكان.
فالإخبار عن مكة المكرمة في العالم الإسلامي -على سبيل المثال- كان قبل شيوع تقنية التصوير، يعكس حالات الحُجّاج الشعورية ووقوفهم مواقف الذهول أمام التاريخ المقدس وتشوقهم للقفز على الواقع المرئي بغية التأمل في فضاء نزول الوحي وتكون الدعوة الإسلامية وما إلى ذلك من المعاني الروحية. فقد كان ما يراه المسلمون في هذه المدينة المقدسة عندهم مختلفا تمام الاختلاف عما يراه غير المسلمين من الرحالة المتسللين تحت أسماء عربية مستعارة مثلا. يختلف الإخبار وتختلف الأوصاف، والمكان واحد.
لقد كان لاكتشاف تقنية التصوير الفوتوغرافي دور كبير في تغيير علاقة العقل البشري بالخبر والحقيقة. فبعد أن كان هذا العقل يقلب النظر في الخبر المنقول بحثا عن العيوب أو النقائص المرتبطة بذاتية ناقله، صار يقف أمام ما تحمله الصورة الفوتوغرافية من أخبار، وكأنه ينفذ إلى حقيقة الواقع المنقول دون توسط ذاتية الإنسان الناقل.
ذلك أن الصورة الفوتوغرافية تقترن بالموضوعية أكثر من أي وسيلة تعبير أخرى، حيث إنها لا تزيد على أن تكشف الغطاء عن حقيقة منظورة لا مِراء فيها. فيجوز القول إن فن التصوير الفوتوغرافي هو فن يُضيِّق المجال أمام إمكانية إسقاط الذوات على الواقع، ويوسع المجال للكشف عن الحقيقة، على خلاف الفنون الأخرى التي توسع الساحة أمام إسقاط الذات على الواقع المنقول.
هذا على أن الصورة تظلّ في نهاية الأمر مجرّد إطار، وكل إطار -كما هو معلوم- هو جامع مانع، يجمع أشياء ويمنع دخول أشياء أخرى، شأنه شأن الحد في المنطق الأرسطي. فقد تكون الصورة انعكاسا لحقيقة الشيء من وجه، أو من وجهة نظر، كما قد تكون في نفس الآن إخفاء لحقيقة أخرى تخرج عن الإطار، من وجه آخر، أو من وجهة نظر أخرى. فالصورة، فضلا عن كونها تمثل فن كشف، هي في الوقت نفسه فن اختزال، تحاول أن تختزل حقيقة الشيء في لحظة ومكان تصويره.
الصورة تكون سلاحا يُستعمل في الاستحواذ على ماهية الآخرين وتثبيت صفاتهم في مخيلة الناظرين، هذا ما يظهر بوضوح في مجموع الصور التي كان يروج لها الاستعمار الأوروبي عن الشعوب المستعمرة، بغية تثبيت صفات لهذه الشعوب تُبرّر استعمارها
وبهذا الاعتبار يصح الحديث عن آلة التصوير الفوتوغرافي كامتداد للمنطق الأرسطي بوصفه آلة عقلية كما يسميه أرسطو نفسه في كتابه "الأورغانون" أو علم الآلة. فكلتا الآلتين يُتوسّل بهما لبلوغ حقيقة الشيء في حال ثباته لا في حال حركته. فالصورة الفوتوغرافية، مثل الحد أو التعريف المنطقي، تُستعمل لاستخلاص صفة مجردة للشيء الموصوف، تُعرِّفه بها تعريفا يقفز على واقع الحركة. يظهر لنا هذا جليا في سلوك الناس أمام عدسة الكاميرا.
فقد جرت العادة أن يَتزيّن المرء ويلبس أفخر الثياب ويختار أفضل وضعية في الجلوس أو الوقوف، ويحرص على أن ترتسم ملامح الدعة والتبسّط على محياه قبل أن تُأخذ له صورة تذكارية. ذلك لأن الصورة في هذا المقام هي محاولة لتثبيت ماهية تتعالى على الواقع، ولتأبيد أحسن صفة نرضاها عن ذواتنا، وكأن لسان حالنا يقول: "هذا أنا على الحقيقة المؤبدة، وكل الصفات الأخرى أعراض لا تمت بالصلة لمن أكون".
وبالمقابل، فالصورة تُستعمل كذلك لاستخلاص الصفات الملازمة للآخرين والمحددة لحقيقتهم الجوهرية الخالدة. عوض أن يترك المُصوِّر الوقت لموضوع صورته أن يَتجمّل ويتزيّن حتى يظهر في أبهى صوره، يُصوِّره على حين غرة، في وضعيات يُنكرها ولا يرتضيها لنفسه. بهذا تكون الصورة سلاحا يُستعمل في الاستحواذ على ماهية الآخرين وتثبيت صفاتهم في مخيلة الناظرين. هذا ما يظهر بوضوح في مجموع الصور التي كان يروّج لها الاستعمار الأوروبي عن الشعوب المستعمرة، بغية تثبيت صفات لهذه الشعوب تُبرّر استعمارهم. فقد اعتمدت الصورة أداة لتغطية واقع الآخرين تغطية تصب في تبخيس هوياتهم وتعرية تخلفهم.
إذا كانت الصورة الفوتوغرافية -بوصفها امتدادا لمنطق عقلي أرسطي- تجمد الشيء المنظور بغية تثبيت ماهيته وبالتالي التحكم فيه، فإن ابتكار آلة الصور المتحركة يؤشر على منعطف آخر في تاريخ الصراع حول الحقيقة. بعد الاستحواذ على ماهية الشيء المصور بفضل الصورة الفوتوغرافية، أصبح ممكنا مع الصور المتحركة تثبيت سردية يرتضيها الإنسان لذاته، كما أصبح مُمكنا الاستحواذ على سرديات الآخرين.
من الأمثلة المجلية لهذا الضرب من الاستحواذ، ما قام به الصحفي الأميركي لويل طوماس (Lowell Thomas) في إطار مخطط جيوستراتيجي يهدف إلى إشراك أميركا في الحرب العالمية الأولى. فقد استطاع بفضل تصويره للورنس العرب رفقة الثوار العرب في الجزيرة العربية، أن يقدم للرأي العام الأميركي سردية عززت الموقف الداعي لدخول أميركا في الحرب إلى جانب الحلفاء، دفاعا عن المضطهدين التواقين إلى الحرية والانعتاق من الاستبداد. لكن هذه السردية سرعان ما اختفت بعد الحرب العالمية الأولى لتحل محلها سردية أخرى تثبت للعرب المسلمين صفات الهمجية والإرهاب والتخلف.
شركات التكنولوجية العظمى، إذ تعمل على تفكيك مؤسسات الحقيقة التي كانت في ملكية الدول وشركات الإعلام الكبرى، تبشر بعالم لا حقيقة فيه إلا الحقيقة الفردية، هذه الحقيقة التي تتناقلها وسائل الإعلام الجديدة عبر صور تخاطب عاطفة الفرد وذاكرته
بعد تفكيك بنية العقل الكلاسيكي الأرسطي، المجمد للماهيات، في زمن ما بعد الحداثة، أخذ الصراع حول الحقيقة منعرجا آخر. إننا اليوم بصدد الانتقال من مرحلة البحث في علاقة التطابق بين الواقع والخبر، وبين الخبر والحقيقة، إلى مرحلة جديدة، يمكننا أن نصطلح عليها بمرحلة "صناعة الواقع والحقيقة".
لقد مكّنت الهواتف الذكية الإنسان -بغض النظر عن مستواه الثقافي وخبرته في الإعلام أو أي مجال آخر- من التقاط صور للواقع كما يراه هو، ثم بث هذه الصور أمام مرأى العالمين. وهذا الأمر أفضى إلى تشظي مفهوم الواقع. فقد تعددت صور الواقع بتعدد الأفراد الذين يملكون أدوات التصوير والبث الذكية. وقد نتج عن هذا تقلص في دور المؤسسات الإعلامية التقليدية التي كانت تستحوذ على تعيين المداخل لقراءة الواقع وتحديد حقيقته.
حين نطيل الفكر فيما يحصل اليوم في عالم الإعلام، يلوح لنا أن شركات التكنولوجيا الكبرى لم تعد تتنافس من أجل تثبيت صورة للواقع، بل صار همها مصروفا لتدبير العلاقة بين ما يبثه الفرد من معلومات على قنوات التواصل الاجتماعي وما ينتجه من محتوى يفصح عن خصائصه العاطفية وذاكرته الفردية، وبين كم المعلومات المبثوثة في العالم الرقمي.
لم تعد أهمية المعلومة -في زمن الخوارزميات والذكاء الاصطناعي- تكمن في كونها تحيل على حقيقة، بل صارت أهميتها تكمن في قيمتها التسويقية. لقد تحولت إلى سلعة تنتج وتباع وتشترى. وبعد أن كان المتلقي مجرد مستهلك للمعلومة، تحول في الزمن الرقمي إلى منتج ومستهلك في نفس الوقت. وكأنّنا بشركات التكنولوجيا الكبرى تتعامل مع الفرد، تطلب منه أن يفصح عن أي معلومة تدل على ميولاته الفكرية أو الفنية أو الجنسية أو الرياضية، فتقوم عندها بإرشاده وتعيين سبل الدخول إلى العالم الذي يبحث عنه، أو الواقع الذي يراه حقيقيا.
ونخلص في هذا المقام إلى القول -باختصار شديد- إن شركات التكنولوجية العظمى، إذ تعمل على تفكيك مؤسسات الحقيقة التي كانت في ملكية الدول وشركات الإعلام الكبرى، تبشر بعالم لا حقيقة فيه إلا الحقيقة الفردية، هذه الحقيقة التي تتناقلها وسائل الإعلام الجديدة عبر صور تخاطب عاطفة الفرد وذاكرته. فقد استطاعت التكنولوجيا أن "تُشَخْصِنَ" الإعلام وتُسلِّع المعلومة والصورة وتُميِّع الحقيقة، حتى صار يشتبه الحق بالباطل على المتلقي.