أحدث الموضوعات
9 ديسمبر 2024
كان السلوك الأمريكي المتعلق بنشر قوات عسكرية في القارة الأوروبية، يغلب عليه الحذر لعقود؛ وذلك تجنباً لإغضاب روسيا أو الدخول في صدام مباشر معها؛ حيث تراجع الحضور العسكري الأمريكي من نحو نصف مليون جندي في الخمسينيات إلى نحو 300 ألف جندي أثناء تفكك الاتحاد السوفييتي، ثم إلى 63 ألفاً في الوقت الراهن، لكن اندلاع الأزمة الروسية – الأوكرانية مثل نقطة تحول في هذا المسار الأمريكي؛ حيث بدأت واشنطن تتحرك من أجل تعزيز حضورها العسكري في أوروبا على المستوى الكمي، فضلاً عن تثبيت وجود قوات أمريكية في منطقة الشرق الأوروبي.
مؤشرات متنامية
شهدت الأشهر الثلاثة الماضية، وبالتحديد منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تصاعد المؤشرات التي عبَّرت عن توجُّه الولايات المتحدة نحو تعزيز حضورها العسكري في أوروبا، وهو ما يمكن تناوله على النحو الآتي:
1– الإبقاء على القوات الأمريكية في أوروبا: أكد المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، في تصريحات صحيفة تم تناقلها يوم 22 مايو الجاري، أن الولايات المتحدة ستحتفظ بالقوات التي نشرتها في أوروبا، بعد دخول روسيا إلى أوكرانيا، وأشار إلى أن “الولايات المتحدة سوف تواصل المناقشات، في الأسابيع المقبلة، مع الحلفاء والشركاء في أوروبا عن وضع تلك القوة وطبيعة وجودها، سواء ضمن قوات الناتو أو من حيث انتشارها، خصوصاً في القمة التي ستُعقَد في مدريد في يونيو المقبل لدول الحلف”، وهو مؤشر يعكس أن ملف الحضور العسكري الأمريكي في القارة العجوز يمثل محوراً مهماً للمناقشات الأمريكية – الأوروبية في الفترة الجارية.
2– إمكانية زيادة عدد القوات الأمريكية: كان مسؤولون أمريكيون قد كشفوا لمحطة “سي إن إن”، في شهر مايو الجاري، أن الولايات المتحدة ستحتفظ بـ100ألف جندي في أوروبا؛ لمواجهة “التهديدات” الروسية. وأضافوا أن عدد القوات قد يزداد مؤقتاً إذا أجرى الناتو مزيداً من التدريبات العسكرية في المنطقة، وهو مؤشر على توجه الولايات المتحدة نحو زيادة عدد قواتها الموجودة في أوروبا، كجزء من السعي إلى ردع روسيا عن تهديد أي حليف أوروبي لواشنطن.
3– توجُّه نحو زيادة القواعد الأمريكية: شهد آخر اجتماع لقادة جيوش دول حلف الناتو، رفع توصيات إلى اجتماع وزراء دفاع الحلف المقرر عقده في يونيو المقبل، وهي التوصيات التي تتفق مع تصريحات كبار القادة العسكريين الأمريكيين، في شهادات أدلوا بها أمام الكونجرس، في شهر أبريل الماضي. وفي هذا السياق قال رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي، إنه يؤيد إنشاء قواعد أمريكية دائمة في أوروبا الشرقية رداً على هجوم روسيا على أوكرانيا، لكنه أضاف أن انتشار القوات الأمريكية في تلك القواعد يمكن أن يكون دورياً، مشيراً إلى أنه لا يعتقد أن الولايات المتحدة بحاجة إلى نشر قوات على نحو دائم لخلق قوة ردع فعَّالة، وهو أحد المؤشرات التي عكست التوجه نحو زيادة عدد القواعد العسكرية الأمريكية في أوروبا، فضلاً عن الرغبة في تثبيت قواعد أمريكية، خصوصاً في دول الجناح الشرقي للناتو.
وما يُكسب هذه الفرضية زخماً متزايداً، التقديرات الغربية التي تذهب إلى أن قرار إقامة قواعد عسكرية دائمة في منطقة شرق أوروبا والبلطيق سوف يَلقى ترحيباً كبيراً من العديد من حلفاء واشنطن في المنطقة، مثل بولندا ورومانيا، بل إنهم سوف يتولون بناء هذه القواعد وتحمُّل نفقاتها، فضلاً عما أشار إليه الجنرال “تود والترز” بسلاح الجو الأمريكي ورئيس القيادة العليا للقوات المتحالفة في أوروبا، في شهادة له أمام الكونجرس، من أن سياسة حلف شمال الأطلسي الحالية بنشر قوات في شرق أوروبا بالتناوب يجب أن تتغير، وأن العديد من دول المنطقة على استعداد لتقبُّل فكرة إقامة قواعد عسكرية دائمة لحلف شمال الأطلسي هناك.
4– إعادة نشر قوات في شرق أوروبا: كانت الولايات المتحدة قد أرسلت بالفعل نحو 2000 جندي من قاعدة فورت براج العسكرية بولاية نورث كارولينا، إلى بولندا وألمانيا، كما نقلت ألف جندي يتمركزون في ألمانيا إلى رومانيا. وبحسب تقرير لموقع NPR الأمريكي، ينتمي نحو 1700 من القوات الأمريكية التي غادرت فورت براج إلى الكتيبة 82 المحمولة جواً من القوات الخاصة البرية، وهؤلاء اتجهوا مباشرةً للتمركز في قاعدة بونانزا الأمريكية على الأراضي البولندية في شرق أوروبا، وأضاف التقرير أن نحو ألف من الجنود الأمريكيين المتمركزين حالياً في ألمانيا سوف يُعَاد نشرهم في رومانيا، وسيكونون جزءاً من سرية سترايكر، وسوف ينضمون إلى نحو 900 جندي أمريكي موجودين بالفعل على الأراضي الرومانية. وبالإضافة إلى تلك القوات، هناك أيضاً 7 آلاف من القوات الأمريكية يجري نشرهم بطريقة تدويرية عبر دول أوروبا الأعضاء في حلف الناتو كجزء من قوة “العزم الأطلسي”، ومقرها بوزنان في بولندا، وهي تحركات ميدانية عملية عكست جدية الولايات المتحدة في تبني خيار إعادة نشر وتعزيز الحضور العسكري في أوروبا.
أهداف متعددة
منذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية أرسلت الولايات المتحدة آلاف الجنود الأمريكيين إلى بولندا وألمانيا ورومانيا، فضلاً عن بروز تأكيدات من جانب البيت الأبيض باستعداد آلاف الجنود الآخرين للتوجه إلى شرق أوروبا، وهو التوجه الذي يمكن فهمه في ضوء الاعتبارات الآتية:
1– المضي قدماً في مشروع “تصميم الأطلسي”: في عام 2014 ومع إقدام روسيا على ضم شبه جزيرة القرم، أُصيبت العديد من دول وسط وشرق أوروبا بالذعر، مثل بولندا ورومانيا ودول البلطيق لاتفيا وإستونيا وليتوانيا، وجميعها أعضاء في حلف الناتو، فطلبت تلك الدول المساعدة العسكرية، وعرضت أن تستضيف قوات أمريكية على أراضيها. وفي ضوء ذلك أطلقت الولايات المتحدة مشروع “تصميم الأطلسي” عام 2014 وهو إرسال قوات أمريكية إلى أراضي الدول الأعضاء في الحلف من شرق ووسط أوروبا للتدريب والبقاء على أراضيها لفترات ثم الانتقال إلى دولة أخرى. ومن ثم، فإن إعادة نشر وزيادة أعداد القوات الأمريكية في أوروبا، تأتي في إطار هذه الاستراتيجية.
2– الاستجابة لضغوط بيئة الأمن الحالية: دفعت الحرب الروسية – الأوكرانية باتجاه قلب وإعادة صياغة الاستراتيجيات الأمنية للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وهو ما تجسَّد في توجه العديد من الدول الأوروبية نحو تحديث وتقوية منظوماتها العسكرية، والدعوات إلى تشكيل قوة أوروبية موحدة، فضلاً عن توجه الولايات المتحدة نحو تعزيز حضورها العسكري في القارة الأوروبية، وتأكيدها أولوية الدفاع عن أمن حلفائها، وهي تحركات تستهدف على نحو رئيسي الاستجابة للبيئة الأمنية الحالية في أوروبا، وما فرضته الحرب من تحديات.
3– الاستعداد لانضمام فنلندا والسويد إلى الناتو: مع تقدُّم فنلندا والسويد رسمياً بطلبات للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، أشار مسؤولون عسكريون روس إلى أن هذا التحرك من قبل الدولتين سوف يجعلهما “في مرمى النيران الروسية”، انطلاقاً من كون هذا التوجه يُمثل تهديداً للأمن القومي الروسي. ويبدو أن الإدارة الأمريكية تُدرك من خلال التجربة الأوكرانية، أن محاولات أي دولة من دول الجوار الروسي للانخراط في تحالفات غربية، خصوصاً على المستوى الأمني، سوف تُقابَل من قِبل روسيا بتصعيد عسكري، وهو الأمر الذي يفرض احتمالات بفتح موسكو جبهة جديدة مع الدولتين. ومن ثم، أرادت الولايات المتحدة عبر آلية تعزيز وإعادة الانتشار، إيصال رسائل ردع إلى روسيا، وفي المقابل توصيل رسائل دعم إلى حلفائها الأوروبيين.
4– مواجهة نفوذ روسيا والصين بتكثيف الحضور: لا يمكن فصل التوجه نحو إعادة نشر وزيادة أعداد القوات الأمريكية في أوروبا عن الاستراتيجية الأمريكية الرامية إلى تعزيز الحضور في القارة العجوز، خصوصاً في منطقتَي الوسط والشرق القريبة من روسيا، وهو أمر يرتبط ببعض الاعتبارات، في قلبها ممارسة الضغط على روسيا، ومواجهة النفوذ والاختراق الصيني المتنامي في شرق أوروبا، فضلاً عن تعزيز تحالف الولايات المتحدة مع دول المنطقة.
وفي الختام، يمكن القول إن التوجه الأمريكي نحو زيادة عدد وإعادة انتشار القوات العسكرية في أوروبا، يرتبط ارتباطاً رئيسياً بالبيئة الأمنية الحالية التي تشهدها القارة الأوروبية، خصوصاً في ضوء التحديات والتداعيات التي فرضتها الحرب الروسية – الأوكرانية، فضلاً عن كونها تأتي في إطار اتفاقات وترتيبات أمنية بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، والتوجه الأمريكي الرامي إلى تعزيز العلاقات مع الحلفاء الغربيين، في مواجهة التهديدات الروسية.
المصدر: إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية