يحيى الكبيسي يكتب: العراق: مغارة حقوق الإنسان

profile
  • clock 23 ديسمبر 2022, 3:14:27 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

دون مقدمات تخفف الصدمة، اطلعنا رئيس مجلس الوزراء، في بيان بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان أنه في العراق: «أضحى تطبيق معايير حقوق الإنسان منذ عام 2003 ولغاية يومنا هذا، معياراً لبناء المؤسسات واعتماد التشريعات والسياسات الوطنية، بما ينسجم وتطبيق ما ورد في وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والأعراف والمواثيق الدولية ذات الصِلة»! ليس هذا وحسب، بل إن العراق قد أصبح ساحة خصبة «لعمل الناشطين والمدافعين عن حقوق الإنسان»، وأن «هذا ثمرة التغيير، وتبني الفهم الحقيقي لمعايير حقوق الإنسان»!
وربما لهذه الأسباب كلها كان الرجل قد أوقف نشر أحد أهم التقارير التي أصدرتها الحكومات العراقية المتتالية من خلال وزارة حقوق الإنسان، وهو التقرير الذي كان يصدر بشكل منتظم بين عامي 2007 و 2011 بعنوان «التقرير السنوي لأوضاع السجون ومراكز الاحتجاز» في العراق، فبعد تسلم محمد شياع السوداني الوزارة سنة 2010، عمد إلى تعديل التقرير الذي كان قد نُشر في ولاية الوزارة السابقة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في السجون ومراكز الاعتقال، وذلك لغرض التخفيف من لغة التقرير، ليصدر التقرير السنوي لعام 2011 في عهده بلغة مخففة، لكنه أوقف هو شخصيا نشره، بعد ذلك بشكل نهائي! لسبب غير معلوم وقد يكون إيمان الرجل بأن «حقوق الإنسان» في السجون ومراكز الاحتجاز العراقية قد بلغت «منتهاها» ولا حاجة لهكذا تقارير!
إن مراجعة هذه التقارير الخمسة التي صدرت عن وزارة حقوق الإنسان، لا تكشف عن أي «تقدم» في مسار حقوق الإنسان في العراق، بل بالعكس تماما، هي تؤكد تراجعا منهجيا فيه! فمراكز الاحتجاز غير القانونية أخذت مسارا تصاعديا. فالقانون العراقي (أمر سلطة الائتلاف رقم 10 لسنة 2003 وقانون وزارة العدل رقم 18 لسنة 2005)، أخضع مراكز الاحتجاز والسجون لوزارة العدل حصرا، لكننا وجدنا أكثر من جهة تنازع وزارة العدل هذا الاختصاص الحصري، مثل وزارة الداخلية ووزارة الدفاع والأمن الوطني والمخابرات؛ فقد أشار تقرير عام 2008 إلى أن عدد مرافق الاحتجاز المخالفة للدستور والقانون قد بلغ 21 مركزا، ليرتفع هذا الرقم إلى 40 مركزا في عام 2010. ويشير تقرير عام 2011 إلى ما يسميه «المخالفة الصريحة لروح القانون في جمع جهتي التحقيق والاحتجاز بيد جهة واحدة الأمر الذي يؤدي إلى حرمان المحتجزين من إمكانية التحرر من الإدارة في تقديم الشكاوى والتظلمات إلى الجهات الرقابية ناهيك من الضغوط التي يمكن أن تمارس بحق المحتجزين لحملهم على الاعتراف»!
وكان أهم ما ورد في هذه التقارير، رفض السلطة التنفيذية بشكل منهجي إغلاق مراكز الاحتجاز غير القانونية هذه، أو الكشف عن تواطؤ القضاء مع هذه الممارسات غير القانونية من خلال قبوله القيام بالتحقيقات الابتدائية والقضائية في أماكن احتجاز غير قانونية من الأصل، فضلا عن الأخذ بالتحقيقات التي تقوم بها جهة الاحتجاز نفسها، في مخالفة صريحة لما استقر عليه فقه القانون بعدم جواز الجمع بين جهتي الاحتجاز والتحقيق بيد جهة واحد!
عام 2017 شرّع مجلس النواب العراقي قانون إصلاح النزلاء والمودعين رقم 14، وفي هذا القانون أشركت وزارة الداخلية مع وزارة العدل في الإشراف على إدارة السجون ومرافق التوقيف الاحتياطي، وهذا القانون هو تأكيد على ما ذكرناه من تراجع واضح عن المبدأ الذي يجعل هذا الأمر من مهام وزارة العدل حصرا. ومع هذا ما زالت الجهات نفسها تنازع وزارتي العدل والداخلية هذه المهام. ثم أضيف إلى تلك الجهات «هيئة الحشد الشعبي»، التي أصبحت تصدر بيانات رسمية حول محتجزين لديها، وعن تحقيقات تجريها، في مخالفة صريحة للدستور والقانون، ليست فقط لا تزعج أحدا، ولكنها تحظى بالإعجاب!

حق الدفاع المقدس والمكفول دستوريا في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة بموجب المادة 19/ رابعا من الدستور هو حق معطل بالكامل في العراق

أما التقرير السنوي الذي أصدرته المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق عام 2020، وهي مفوضية لم تحتفظ باستقلاليتها، وتحولت كما ذكرنا كثيرا، إلى ممثلية أحزاب يُعّينُ أعضاؤها عبر الأحزاب والفاعلين السياسيين المهيمنين على القرار داخل مجلس النواب العراقي، فقد تحدث عن «قيام وزارة الدفاع وجهاز مكافحة الإرهاب وجهاز الأمن الوطني بإدارة سجون ومرافق توقيف احتياطي» خلافا للقانون!
أما حق الدفاع المقدس والمكفول دستوريا في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة بموجب المادة 19/ رابعا من الدستور، فهو حق معطل بالكامل في العراق، إذ لا يزال قانون أصول المحاكمات الجزائية النافذ غير معني بهذا «الحق الدستوري»؛ فالمواد 123 ـ 129 المتعلقة باستجواب المتهم لا تلتفت إلى هذا الحق مطلقا! ما عدا في إقليم كردستان حيث جرى تعديل جوهري على هذه المواد حين قرر إضافة فقرتين إلى المادة 123 تتعلق بحق الدفاع وأنه «على قاضي التحقيق أو المحقق حسم موضوع رغبة المتهم بتوكيل محام قبل مباشرة التحقيق، وفي حالة اختيار المتهم توكيل محام عنه فليس لقاضي التحقيق أو المحقق المباشرة بأي إجراء حتى حضور المحامي»! وقد أشار تقرير المفوضية العليا لحقوق الإنسان الى الغياب «شبه التام للمحامين في أدوار التحقيق الابتدائي…»! يرتبط بهذا الخرق قيام جهات الاحتجاز القانونية (الممثلة بوزارة الداخلية)، وغير القانونية العديدة الأخرى بمهام التحقيق! وهو ما تؤشره تقارير بعثة الأمم المتحدة في العراق. ففي تقرير بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) ومكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان حول التعذيب، الذي يغطي المدة بين 1 تموز/ يوليو 2019 حتى 30 نيسان/ أبريل 2021، نقرأ النص الآتي: «الوصول إلى محام في العراق يتم تأخيره بشكل منهجي إلى ما بعد استجواب المشتبه به من قبل قوات الأمن، وإلى حد كبير من قبل قاضي التحقيق»!
وأن «دور المحامين الذين تنتدبهم المحكمة يقتصر أساسا على مجرد حضور جلسات محاكمة واحدة وتوقيع الوثائق دون المشاركة الفعلية في قضية ما، مما يجعل المشتبه بهم والمتهمين دون دفاع قانوني فعال»! وأن «استجواب المشتبه بهم من قبل قوات الأمن في العراق يعد ممارسة شائعة» وأن 91٪ ممن تمت مقابلتهم أشاروا إلى أنه جرى استجوابهم «من قبل سلطات الاحتجاز وليس قاضي التحقيق حصرا ودون حضور محام»! كما يتحدث التقرير عن طول فترة الاحتجاز السابق للمحاكمة، وتنقل أن أحد المستجوبين أطلق سراحه لعدم وجود أدلة بعد 21 شهرا من الاحتجاز السابق للمحاكمة!
ويؤكد التقرير أن المعتقلين يُحتجزون في أماكن غير خاضعة لسلطة وزارتي العدل والداخلية كما ينص القانون، بل ويُحتجزون في أماكن خاضعة لوزارة الدفاع وجهاز الأمن الوطني وجهاز المخابرات الوطني وجهاز مكافحة الإرهاب وقوات الحشد الشعبي في مخالفة صريحة للقانون!
أما الكارثة الأعظم في هذا السياق، فهي تواطؤ القضاء العراقي، بشكل منهجي، مع هذه الانتهاكات الدستورية والقانونية لحقوق الإنسان، عبر تنسيب قضاة للعمل داخل هذه المؤسسات الأمنية لإدارة التحقيقات فيها، هكذا تقرأ في بعض أوامر إلقاء القبض عبارة «مكتب المحقق القضائي الخاص بقضايا جهاز المخابرات الوطني العراقي»، ويتم تداول عبارات: قاضي الحشد، وقاضي المخابرات بوصفها توصيفات طبيعية!
وللحديث بقية!


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)