يحيى الكبيسي يكتب: العراق: متى يكون الفساد فسادا؟

profile
  • clock 2 ديسمبر 2022, 3:39:54 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

لا تسعفنا التعريفات المتداولة للفساد في توصيف ما يحدث في العراق، ولعل أشهرها تعريف البنك الدولي الذي يعرف الفساد بأنه «إساءة استخدام الوظيفة العامة لتحقيق مكاسب شخصية»، وأنه يغطي مجموعة من السلوكيات التي تمتد من الرشوة إلى سرقة المال العام. ويبدو تعريف منظمة الشفافية الدولية أكثر إحكاما حين يعرفه بأنه «إساءة استخدام السلطة الموكلة لتحقيق مكاسب شخصية» (عبارة «السلطة الموكلة» أكثر شمولية من عبارة «الوظيفة العامة»). مع ذلك فالتعريفان قاصران تماما عن توصيف طبيعة الفساد في العراق!
ذلك أن الفساد في العراق، ليس فساد أفراد (موظفون عموميون أو أفراد يمتلكون سلطة أو لديهم مدخل اليها)، بل هو فساد بنيوي يتعلق ببنية النظام السياسي نفسه، وببنية الدولة نفسها، وخطورته أنه تمدد بقوة ليصبح جزءاً من بنية المجتمع! وبالتالي فإن الجهات المكلفة بمكافحة هذا الفساد؛ وهي، هنا، هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية، هي جزء من هذه البنية، وتحتكم إليها والى التواطؤ الصريح والضمني الذي يسيِّرها. أما القضاء، الذي يفترض أنه الحكم النهائي هنا، فهو أيضا جزء من بنية الفساد!
وهذا يعني أن «الفساد» في العراق لا يكون فسادا إذا لم يتم «الاتفاق» بين هذه البنية مجتمعةً، أو أطراف فيها على الاعتراف أنه «فساد»! وهذا لا يحدث إلا في حالات محددة؛ كأن تستخدم هذه الأطراف أو بعضها، ملفات الفساد لغايات سياسية، وغالبا ما يكون قرار القضاء مؤشرا على طبيعة علاقات القوة بين هذه الأطراف أو محددًا لأيِّها الأقوى، أو أن تتحول قضية فساد ما إلى قضية رأي عام بعد افتضاحها، فتضطر تلك الجهات الثلاث للتدخل، لغرض التنفيس، لكنها هي نفسها التي تقوم بالتغطية على ذلك الفاسد! أو أن تكون حالة الفساد تلك حالة فردية لا تتعلق ببنية الفساد الحاكمة وحاكميها!
تصدع الائتلاف العراقي الموحد الذي ضمَّ القوى الشيعية عام 2009، وسمح هذا التصدع السياسي بتصدع مؤقت في بنية الفساد الحاكمة، ونتيجة لذلك، فُتِح ملفُ فساد وزير التجارة الأسبق فلاح السوداني، الذي كان ينتمي إلى حزب الدعوة ـ تنظيم العراق المحسوب على ائتلاف دولة القانون. وقد استجوبه، حينها، نائب محسوب على أحد طرفي التصدع، وقُبلت استقالته لتجنب سحب الثقة عنه، و لم ينفذ في حقه أمر إلقاء القبض القضائي بعد صدوره، وسُمح له بالسفر إلى بريطانيا، ليُحكم عليه غيابيا بسبع سنوات بموجب تلك التهم. وعندما أُلقي القبض عليه عام 2018 في بيروت، وترحيله إلى العراق، حكمت المحكمة العراقية عليه حضوريا بالسجن لمدة 7 سنوات في ثلاث قضايا فساد، أي ما مجموعه 21 سنة، لكن اللجنة المشكلة لتنفيذ قانون العفو العام لعام 2016، وهي لجنة يرأسها قاض أيضا، وجدت أن الرجل مشمول بقانون العفو العام الصادر عام 2016 «لتنازل المشتكين (وزارة التجارة)» في واقعة فاضحة!

إن بنية الفساد الحاكمة هذه وحدها هي التي تفسر للجميع ما جرى ويجري مع حادثة اكتشاف سرقة مبلغ 2.5 مليار دولار من التأمينات الضريبية

وبغض النظر عن غرابة فكرة «التنازل» هذه، نسيت اللجنة أن القانون لم يشترط تنازل المشتكي فقط، بل اشترط «تسديد ما ترتب بذمة المشمولين بأحكام هذا القانون من التزامات مادية لمصلحة الدولة»، فجاء قرار العفو الصادر عن محكمة الرصافة في بغداد خاليا من موضوع تسديد هذه الالتزامات المالية! طبعا لا يمكن فهم تنازل وزارة التجارة، ولا يمكن فهم شمول الرجل بقانون العفو من لجنة قضائية وتناسيها شرط تسديد الالتزامات المالية، إلا في سياق بنية الفساد الحاكمة للنظام السياسي والدولة معا!
وبنية الفساد الحاكمة هذه هي التي تشرح حالة أخرى لمتهم «مزمن» بالفساد، حيث صرحت وزارة الداخلية مرارا أن لديها سجلا جنائيا ضد هذا المتهم، لكنه تمكن من أن يصبح وزيرا عام 2014، ثم صدرت بحقه أحكام قضائية بتهم الفساد وشمله أيضا قانون العفو الصادر عام 2016 بقرار قضائي، واستبعدته المفوضية العليا المستقلة للانتخابات من الترشح في انتخابات عام 2020 لأنه محكوم «بجريمة فساد» وفقا لقانون الانتخابات الذي نص على أن على المرشح أن يكون «غير محكوم بجناية أو جنحة مخلة بالشرف بحكم قضائي بات وإن شمل بقانون العفو» لكن الهيئة القضائية للانتخابات أعادته إلى الانتخابات بقرار قضائي «بات»! ووفقا لهذا القرار، فان جرائم الفساد التي نص عليها قانون النزاهة لم ينص على اعتبارها جميعا من الجرائم المخلة بالشرف، وبأن جريمة الفساد التي حُكم بها الرجل «لم تكن مخلة بالشرف»!
وبنية الفساد هذه هي التي أتاحت إخفاء تحقيقات رسمية تثبت تورط رئيس إحدى سلطات الدولة بجريمة فساد واضحة، وإخفاء تحقيقات رسمية تثبت تزوير أحد النواب لشهادته الدراسية، من خلال التلاعب بسجلات وزارة التربية نفسها، ومنحه المقعد البرلماني لدورتين!
إن بنية الفساد الحاكمة هي التي تفسر للجميع ما جرى ويجري مع حادثة اكتشاف سرقة مبلغ 2.5 مليار دولار من التأمينات الضريبية، حيث أطلّ علينا السيد رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني يوم 27 تشرين الثاني، وهو محاط بأكوام من الدولارات والدنانير العراقية ( والتي لا تشكل سوى أقل من 5٪ من المبلغ المسروق في هذه القضية أي ما قيمته 1.1 مليار دولار أمريكي) ويتحدث عن «تسوية» تضمنت الإفراج عن المتهم الرئيسي بالسرقة (نور زهير الخفاجي) بهدف «السماح له ببيع العقارات التي اشتراها بهذا المبلغ وإرجاعه للدولة»! لكن القاضي المكلف بالقضية قال، إنه «لا صحة لما يتداول بأن إطلاق سراح المتهم نور زهير كان لغرض السماح له ببيع العقارات المحجوزة، وأن جميع العقارات محجوزة ولن يرفع عنها لحين اكتمال التحقيق»! ولم ينس القاضي إضفاء بعض التسييس على كلامه حين قال إن «التحقيقات الأولية قد تثبت تورط جهات رفيعة في الحكومة السابقة بعملية السرقة»! وبعيدا عن التخريجات القانونية المبتذلة لإخلاء سبيل المسؤول عن هذه السرقات، لا بد من التركيز على حرف التحقيق «قد» الذي إذا دخل على الفعل المضارع كان «حرف تقليل»، وهو ما يعني أن السيد القاضي يوزع اتهاماته دون دليل سوى «الظن»! ولكن يمكن فهم التصريح في سياقه السياسي المتعلق بشيطنة بعض الأطراف لحكومة الكاظمي!
لا تعني هذه التناقضات أن ثمة خلافا حقيقيا حول تحقيق العدالة وكشف الفساد، وإنما تعني فقط أن الاختلاف هو في الاجتهاد حول التغطية على القرار غير المنطقي بإخلاء سبيل المتهم!

كاتب عراقي

التعليقات (0)