يحيى الكبيسي يكتب: العراق خرافة سيادة القانون

profile
  • clock 27 يناير 2023, 12:06:16 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

تُعرف الأمم المتحدة سيادة القانون بأنها «مبدأ للحكم يكون فيه جميع الأشخاص والمؤسسات والكيانات العامة والخاصة، بما في ذلك الدولة ذاتها، مسؤولين أمام قوانين صادرة علنا، وتطبق على الجميع بالتساوي ويحتكم في إطارها إلى قضاء مستقل، وتتفق مع القواعد والمعايير الدولية لحقوق الإنسان. ويقتضي هذا المبدأ كذلك اتخاذ تدابير لكفالة الالتزام بمبادئ سيادة القانون، والمساواة أمام القانون، والمساءلة أمام القانون، والعدل في تطبيق القانون، والفصل بين السلطات، والمشاركة في صنع القرار، واليقين القانوني، وتجنب التعسف، والشفافية الإجرائية والقانونية». (تقرير الأمين العام: سيادة القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات الصراع ومجتمعات ما بعد الصراع 2004)
في العراق، يبدو مع كل حدث، أن سيادة القانون، وهي المبدأ الأول للديمقراطية وهدفها الأساسي، مجرد سردية تستخدم لخداع المواطن العراقي ليس أكثر. والأحداث التي تؤكد هذه الحقيقة كثيرة، لعل أقربها إقالة السيد رئيس مجلس الوزراء محافظ البنك المركزي، وتعيين محافظ جديد «وكالة» بسبب التدهور في سعر صرف الدينار العراقي، بعد الإجراءات التي اتخذها البنك الفيدرالي الأمريكي والتي فرضت على البنك المركزي العراقي «نظام سويفت» الخاص بالتحويلات المالية العابرة للحدود لمنع عمليات التهريب وغسيل الأموال واسعة النطاق التي كان البنك المركزي العراقي يشكل غطاء لها طوال السنوات الماضية!
تقرر المادة (13/1/ أ) من قانون البنك المركزي العراقي المعدل أنه: «يعين محافظ البنك المركزي العراقي بدرجة وزير باقتراح من مجلس الوزراء ومصادقة مجلس النواب وأن يكون من ذوي الخبرة في الشؤون المصرفية او المالية أو الاقتصادية» لكن لا أحد منذ العام 2012 التزم بما تقرره هذه المادة القانونية!
ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2012، وفي مؤامرة صريحة للتخلص من محافظ البنك المركزي، بسبب إصراره على عدم انتهاك أحكام قانون البنك التي تحظر إقراض الحكومة، أُقيل الدكتور سنان الشبيبي وعُيّن بدلا عنه الدكتور عبد الباسط تركي محافظا جديدا للبنك المركزي وكالةً وبقي في منصبه لما يقرب من سنتين!
وفي سبتمبر/ أيلول 2014، عيّن رئيس الحكومة آنذاك نوري المالكي (وقد كانت حكومته حكومة تصريف أعمال) محافظا جديدا هو الأستاذ علي محسن العلاق، الذي كان يشغل منصب أمين عام مجلس الوزراء وكالة أيضا، وقد استمر في منصبه أكثر من ست سنوات!
في سبتمبر/ أيلول 2020 عيَّن رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي الأستاذ مصطفى مخيف محافظا للبنك المركزي وكالة أيضا، في انتهاك مزدوج للقانون حيث يحمل المحافظ الجديد شهادة في القانون، ولم يكن من ذوي الاختصاص في الشؤون المصرفية أو المالية أو الاقتصادية، كما يقرر القانون!
وفي كانون الثاني/ يناير 2023 عين رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني محافظا جديدا بالوكالة مرة أخرى!

لا يمكن فهم هذا الانتهاك الفاضح للقانون على مدى أكثر من عشر سنوات، عبر تعيينات لا تتسق مع أحكام القانون، دون أن يسعى أحد إلى منعها، إلا من خلال معرفة التواطؤات الجماعية التي تحكم الدولة العراقية

ولا يمكن فهم هذا الانتهاك الفاضح للقانون على مدى أكثر من عشر سنوات، عبر تعيينات لا تتسق مع أحكام القانون، دون أن يسعى أحد إلى منعها، إلا من خلال معرفة التواطؤات الجماعية التي تحكم الدولة العراقية، والتي تجعل الدستور والقانون مجرد أدوات تستخدمُ حسب الرغبة وعند الحاجة، وتُركنُ أيضا حسب الرغبة وعند الحاجة!
بالعودة إلى قانون البنك المركزي العراقي، تتحدث المادة 26 عن منع إقراض الحكومة، وأنه «لا يجوز للبنك المركزي منح إئتمانات مباشرة أو غير مباشرة للحكومة، أو أي مؤسسة أو كيان حكومي»! وكانت هذه المادة هي السبب الرئيسي في الإطاحة بالدكتور سنان الشبيبي الذي ظل مصرا على الالتزام بالقانون، وقد اشترك مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء في هذه المؤامرة حينها، فضلا عن القضاء الذي أصدر أمر إلقاء قبض بحق الدكتور سنان الشبيبي في فضيحة قانونية تنتهك قانون البنك المركزي الذي يعطي «حصانة قانونية» لأعضاء مجلس إدارة البنك من التعرض للمساءلة القانونية بسبب عملهم (المادة 23)!
كما أن قانون البنك المركزي ينصُّ على «استقلاليته» ويمنع الحكومة من التدخل في عمل البنك بشكل مطلق (المادة 2) ومع ذلك طالبت الحكومة العراقية في كتاب رسمي إلى البنك المركزي بتاريخ 15 آذار/ مارس 2012 «تقديم السياسة النقدية للبنك المركزي إلى مجلس الوزراء لاطلاع المجلس عليها وإقرارها» وهو انتهاك آخر لقانون البنك الذي يعطيه الصلاحية الحصرية في تحديد السياسة النقدية (المادة 4)!
وفي مراجعة للورقة البيضاء التي أصدرتها حكومة السيد مصطفى الكاظمي سنجدها تتحدث صراحة عن «سعر الصرف غير التنافسي للدينار العراقي»! وتتحدث في موضوع آخر تحت عنوان «نحو تحقيق الاستقرار المالي المستدام» و«دراسة سعر الصرف الحالي مقابل الدولار والأخذ بنظر الاعتبار الاهتمام بمتطلبات الاستقرار المالي والنقدي» وهو تدخل صريح في اختصاصات البنك المركزي الحصرية بموجب القانون! بل إن وزير المالية السابق تحدث بكل ثقة عن تغيير سعر صرف الدينار العراقي الذي جرى في كانون الأول/ ديسمبر 2020 والذي كان ضمن ما وصفه «السياسة الإصلاحية للحكومة» كما قال!
إن متراكمة انتهاكات قانون البنك المركزي هذه، والتي قوضت استقلالية البنك، وقوضت صلاحياته المتعلقة بالسياسة النقدية، والتواطؤ الذي حكم ذلك، جعلت من السهل فهم كيف تحول البنك المركزي خلال سنوات إلى غطاء لعمليات غسيل الأموال وتهريبها، وهو ما تسبب في أزمة سعر الصرف الحالية! فقد أشار، مثلا، التقرير السنوي للاستيرادات الذي تصدره وزارة التجارة العراقية/ الجهاز المركزي للإحصاء لعام 2017 أن العراق قد استورد «بندورة طازجة أو مبردة» بقيمة 1.664 مليون دولار أمريكي، كانت حصة إيران وحدها 1.655 مليون دولار! واستورد في السنة نفسها «بطيخا أخضر» بقيمة 2.863 مليار دولار، وكانت حصة إيران وحدها 2.841 مليار دولار! ومع ذلك لم يقف أحد في الدولة العراقية، لا البنك المركزي المسؤول عن التحويلات المالية، ولا وزارة التجارة المسؤولة عن إجازات الاستيراد، ولا المنافذ الحدودية المسؤولة عند هذه الأرقام غير المنطقية من أجل تدقيقها، التي كانت مجرد غطاء لتهريب وغسيل الأموال!
في دولة يحكمها نظام سياسي كليبتوقراطي/ لصوصي على المستوى الأفقي، وزبائني على المستوى العمودي، وتحكمه التواطؤات والصفقات وليس الدستور أو القانون، يصبح الحديث عن الوقائع منفصلة عن سياقها العام هذا مجرد عبث!

كاتب عراقي

التعليقات (0)