عبد الحليم قنديل يكتب: ما بعد الزلزال

profile
  • clock 11 فبراير 2023, 3:04:34 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

في جملة المآسي التي رافقت وأعقبت زلازل شرق المتوسط الأخيرة، ظهرت مئات القصص الإنسانية من تحت الأنقاض، بينها حادثة الأم الشابة، التي فاجأها مخاض الولادة تحت الردم، وسلمت وليدها لفرق الإنقاذ التي وصلت إليها، ثم أسلمت الروح إلى بارئها، وتركت وليدها لحياة تنتظره بآلامها وآمالها.
وربما تكون في قصة الوليد الناجي، وفي سواها من المفارقات المماثلة، ما قد يوحى بتغييرات جديدة في أحوال المنطقة، بعد أن تنتهي مشاهد الرعب كلها، ويحصي الناس في تركيا وسوريا إجمالي الخسائر النهائية، وهي مرشحة ـ للأسف ـ لارتفاع مفزع، قد يجعل ما جرى أم الكوارث لحجر وبشر سوريا بالذات، التي شهدت حشدا هائلا من تزاحم المآسي الحربية، سقط فيها مئات الآلاف من القتلى، ودمرت فيها مئات المدن والقرى، في صدامات دامية، بدت بواكيرها موحية بثورة ديمقراطية في سوريا، ثم تحولت سريعا إلى ثورة على سوريا، شاركت فيها أطراف محلية وإقليمية وإرهابية ودولية، وارتكبت فيها أفظع الجرائم، وفرضت كل ألوان الحصار، وضاعت وحدة الأراضي السورية، وتكاثرت الجيوش والميليشيات الأجنبية، ووقعت سوريا كلها تحت انتداب واحتلال متعدد الجنسيات، وبدت الأطراف ذات الأصل السوري مغيبة تابعة مرتهنة، وربما لا حيلة لها في الزلزال السياسي والحربى الكافر، تماما كما بدت هذه الأطراف كلها قليلة الحيلة أو معدومة الحيلة، وهي تواجه زلازل الطبيعة الأخيرة، التي لا حيلة لأحد، حتى في توقع مواعيد حدوثها، سواء في مناطق أوسع، يفترض أنها تحت سيطرة نظام دمشق، أو في شمال غرب سوريا، حيث اجتمع ملايين النازحين خوفا، في مخيمات ذابت في عواصف وأمطار الشتاء الثلجي، أو في ما تبقى قائما من مبان، جاء الزلزال الأخير ليعصف بآلاف منها، ويلحق عشرات الآلاف من سكانها بسابقيهم من ضحايا حروب لا ترحم.

ربما ترى النفوس الطيبة بعد أهوال الزلازل الطبيعية، حقيقة ما جرى لسوريا وطنا وشعبا، فلا حيلة لأحد في أقدار وزلازل الطبيعة، لكن حيل البشر مؤثرة في غيرها

هذا المشهد المقبض القاتم، جعل سوريا تبدو، وكأنها الضحية الأولى للزلزال، رغم أن الأرقام المعلنة على علاتها، تجعل تركيا في وضع الضحية الأكبر، فالزلزال وتوابعه المهلكة، اجتاح عشر محافظات تركية، لكن تركيا على عظم مصابها الأليم، بدت في حال مختلف، فتركيا دولة منتظمة المؤسسات، وعندها إمكانات وخبرات إنقاذ كبيرة، ويتدفق عليها دعم دولي وإقليمي فعال، بينما سوريا متلاحقة النكبات، لا تحظى بسلطة موحدة، ولا بعنوان بريد جامع، يمكن أن تصل إليه معونات الإنقاذ، اللهم إلا في الأراضي المنسوبة لنظام دمشق، الذي تلقى اتصالات من دول عربية وأساطيل دعم جوي، خاطرت بكسر قوانين حصار واشنطن وعقوباتها لسوريا، وقدمت بعض ما تستطيعه من عون إنقاذي وطبي وغذائي، لا يبالى بقانون «قيصر» ولا بقانون «الكبتاغون»، بينما بدا الحس الشعبي العربي عموما متحفزا لمساعدة شعب سوريا الشقيقة في مواجهة توابع الزلازل، وعلى نحو ما جرى في ساحات عربية متعددة، وأيا ما كان موقف النظم الحاكمة فيها من النظام السوري، ومن دون فرص للوصول إلى منطقة شمال غرب سوريا، التي حجز عنها أي عون مبكر، بسبب إغلاق المعابر التركية، وسوء أحوال الطرق والظروف الجوية، وحتى إشعار لاحق، فتحت فيه المعابر بعد فوات أوان إنقاذ ما تيسر من حيوات البشر المنكوبين. والسؤال الذي يبقى بعد سقوط الضحايا بالآلاف، هل تكون في المحنة المزلزلة بعض عواقب المنح؟ وهل تفتح المعابر المسدودة في الأزمة السورية برمتها، وهل يصل السوريون بعد الزلزال إلى كلمة سواء، وتعود لسوريا وحدتها الترابية والسياسية، وتدرك الأطراف المتحاربة كلها، أن لا أحد كسب من لعبة الموت المجاني، ويديرون حوارا صادقا لبناء دولة وجيش موحد، والتوصل إلى تسوية لتفاقمات الوضع السياسي المعتل قبل الزلزال وبعده، من يدري؟ ربما ترى النفوس الطيبة بعد أهوال الزلازل الطبيعية، حقيقة ما جرى لسوريا وطنا وشعبا، فلا حيلة لأحد في أقدار وزلازل الطبيعة، لكن حيل البشر مؤثرة في غيرها، وربما يكون ما جرى دافعا لتحرك إيجابي ما، يأتي من السوريين المخلصين في أطياف السياسة كافة، خصوصا أن أطرافا منسوبة للمعارضة السورية مرتبطة بالسياسة التركية، التي بدأت قبل شهور في التحرك باتجاه نظام دمشق، والسعي لإجراء مصالحات برعاية موسكو، وربما تكون الزلازل التي جمعت الجغرافيا بين تركيا وسوريا في المحنة الكبرى دافعا إضافيا، يقود النوايا التصالحية في طرق سالكة أكثر، خاصة مع تطور المصالحات بين أنقرة وعواصم عربية عدة، يميل أغلبها إلى إعادة النظام السوري لمقعده الفارغ في الجامعة العربية، وربما لا تشترط سوى إتمام حوار جدي ناجز بين الحكومة السورية ومعارضاتها، قد تتمكن أطراف عربية من المساهمة فيه، وقد يكون من أثر للتغيرات الجارية عند قمة المشهد الدولي، ولجوء أطراف عربية مؤثرة لحياد إيجابي في وقائع حرب أوكرانيا، يبعدها قليلا أو كثيرا عن الانصياع لإملاءات واشنطن، ويفكك قبضتها الشريرة عن أعناق النظم العربية، التي يسعى بعضها إلى حرية حركة أكبر، وإلى استكشاف مصالحها الذاتية، وإلى البحث عن تسويات مع جوارها الإيراني والتركي، بدلا من مواصلة السير الأعمى وراء حروب ومصالح وأولويات واشنطن وتل أبيب، وإعادة ترتيب أوراق البيت العربي، وتغليب لغة التضامن على انفلات الخلافات والأزمات، وبالذات بعدما بدا من عودة وصحوة النزعة القومية العربية عند القواعد الشعبية، وغلبتها على ما عداها من صور الهوان الطويل، وعلى نحو ما رأيناه في مشاعر الجمهور العربي على هوامش مباريات مونديال قطر الكروي، وفي مشاعر التعاطف المتدفق مع سوريا في محنة الزلازل الأخيرة، وكلها تلتف حول قضية فلسطين ومقاومتها الجسورة لوحشية كيان الاحتلال، ثم حول استعادة سلامة الأقطار العربية المحطمة، وبينها سوريا وعذاباتها، وعشرات ملايين لاجئيها ونازحيها والمقيمين فيها، وهذه «الفزعة» الشعبية العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج، ربما تكون أول عناصر التأثير في مواقف النظم الحاكمة، ولو على سبيل التظاهر بمصالحة شعوبها، فقد تكون أوضاع الاستبداد وكبت الآراء هي الغالبة في منطقتنا، لكن الآراء الحرة تجد سبلها رغم القمع، وتفتح براحا متاحا عبر وسائط التواصل الاجتماعي الإلكتروني، وتخلق نوعا من قوة الرأي العام المرئية، وبالذات عند توالى المحن والكوارث، التي تلحق بأي شعب عربي، وعلى طريقة ما جرى ويجرى في موجة تضامن فطري وقومي تلقائي مع المنكوبين، وبعيدا عن حملات الدس والوقيعة وفتن الذباب الإلكتروني، ولو أرادت النظم العربية أن تفعل شيئا لفعلت في الملف السوري، فقد تأخرت وغابت طويلا، وربما تأتي متأخرة، فذلك أفضل من ألا تأتي أبدا، وقد يكون الزلزال وتوابعه نوعا من الإشارات السماوية الهادية للغافلين، فالتضامن الحقيقي مع سوريا، يعني أن نمد اليد لسوريا، ومن دون أن يعني ذلك تعصبا ولا انحيازا لطرف بعينه في غابات الحطام السوري، هذا إن أردنا أن تعود سوريا لعروبتها، لا أن تظل غنيمة للأجانب وملاعب دم لبنيها، ومن دون أن يعني ذلك تعصبا للقومية العربية دون سواها، خصوصا من الإخوة الأتراك ضحايا الزلازل المدمرة، وقد كان سلوكا حسنا من حكام عرب، أن جمعوا في اتصالات التضامن والمواساة بين سوريا وتركيا، فالحكام زائلون والشعوب باقية، ولا يصح اختزال شعب في حاكم بعينه، وهو ما سبق إليه الشعور الفطري الإنساني عند الناس العرب العاديين، وإعلاء تضامنهم مع الشعب التركي، ودونما ارتباط بأي آثار سياسية واردة لنكبة الزلزال الأخطر في تاريخ تركيا الحديث، التي تنتظر جولة انتخابات رئاسية استثنائية، قد تتأخر مواعيدها مع الظروف الطارئة، فاختيار من يحكم تركيا، هو حق وواجب الشعب التركي وحده، وذاكرة الشعوب ووجدانها الجمعي لا ينسى، ومساهمة العرب في دعم الأتراك بالمحنة، تعني ما هو أبقى من بقاء حاكم أو ذهابه، وكثيرا ما أعقبت الكوارث الطبيعية تغيرات في السياسة، وعلى نحو ما جرى بعد آخر زلزال كبير سابق عام 1999، وسقوط 17 ألف قتيل وقتها، وتغيرات المشهد التركي في أعقابه، لكن ما يهمنا أولا وأخيرا في المسألة التركية، أن تبقى الصلات مع شعبها متينة وأخوية وصادقة، تماما كما نتمنى أن تكون الصلات مع الشعوب الإيرانية، التي من حقها وحدها وحصرا، أن تغير نظامها أو أن تبقيه، ولكن من دون توحش النفوذ الإيراني على حسابنا، ونشر التعصب الطائفي والعنصري المقيت.
 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)