عبد الحليم قنديل يكتب: حرب الدم الفلسطيني

profile
  • clock 7 يناير 2023, 3:36:04 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

دخلت فلسطين العام الجديد بدماء الشهداء المئتين والخمسين في العام المنقضي وحده، وبجراح مصابين يناهزون العشرة آلاف، وبقوافل من الأسرى، أضيف إليهم 6500 من الشباب والشيوخ والنساء والأطفال، وبهدم قوات الاحتلال لقرابة الثمانمئة والخمسين منزلا فلسطينيا، وبرصيد هائل من عمليات المقاومة من شتى الصور والدرجات، بلغ عددها في العام الماضي وحده 7200 عملية، أسقطت 31 قتيلا إسرائيليا و500 مصاب، ولم تستثن منطقة واحدة في فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، وبجيل جديد مذهل من الفدائيين الفلسطينيين، حولوا القدس ومدن ومخيمات الضفة الغربية إلى «عرين أسود»، يفزع كيان الاحتلال الإسرائيلي.
وقد لا تكون من قيمة كبيرة لأي شيء آخر، ولا حتى لقرارات الأمم المتحدة عن الحق الفلسطيني، وقد تراكمت منها مئات، لا تنطوي على ما هو أكثر من معان رمزية مفيدة في كسب رأي عام دولي، ويكاد يطمس جديدها قديمها، بعد أن تحولت تباعا إلى حبر يجف فوق الورق، وتدهسها جميعا حكومات الاحتلال المتعاقبة، وإلى حد وصف رئيس وزراء العدو الحالي بنيامين نتنياهو لها بأنها «حقيرة»، فهي لا تنهي احتلالا، ولا تهدده، ولا تفتح طريقا لاسترداد حقوق، لن تعود إلا بالقوة والمقاومة، وبنداء الدم الذى يهزم السيف، وبانتفاضات شعبية ومسلحة، عاد إليها الشعب الفلسطيني بقوة وإصرار غير مسبوق، منذ توقف انتفاضته الثانية الكبرى، وبثقة كاملة في نصر الله لعباده المقاومين، الذين لا يخيفهم احتلال باطش، ينتفخ غرورا بما لديه من ترسانات سلاح متطور، وبإسناد رعاته الأمريكيين وحلفائه العرب «الصهاينة» القدامى والجدد، بينما الشعب الفلسطيني وحيدا فريدا عاريا من كل سند، يواصل ملاحمه البطولية، التي أرغمت شارون مقتحم الأقصى، في أوائل القرن الجاري، أن يحمل عصاه وقواته ومستوطناته، ويرحل من طرف واحد عن قطاع غزة، ولن يكون الصبيان إيتمار بن غفير ولا بتسلئيل سموتريتش وغيرهما أعتى من شارون، الذي كانوا ينعتونه بلقب «ملك إسرائيل»، وكان محاربا شرسا، لا تقاس إليه لزوجة و»ثعبانية» نتنياهو، الذي لم يحمل سلاحا في حياته، ويقود هذه المرة حكومة من المجرمين والبلطجية وأرباب السوابق الجنائية والإرهابية.

أي كيان استيطاني لا ينتصر ويبقى إلى النهاية، إلا في حال استئصال الشعب الأصلي أو تهميش وجوده، وهو ما حدث ويحدث عكسه في الحالة الفلسطينية

وقد يقال، إن حكومة «نتنياهو» الجديدة هي الأشد يمينية وتطرفا وعدوانية، لكنها لا تفترق بالخلقة ولا في الممارسة عن حكومات سبقت، شكّلها نتنياهو ومنافسوه، فلا فرق محسوسا بين يائير لبيد وبن غفير، ولا بين نفتالى بينيت وسموتيريتش، بل كلها صور تتناسل في مجرى الهمجية بلا حدود، وفي تأكيد معنى متصل على مدى العقود الأخيرة، زاد فيه ميل جمهور الكيان إلى النزعات اليمينية المتطرفة، وتآكلت مظاهر الادعاء اليساري والديمقراطي، وتضاعفت هيمنة ما يسمى «الصهيونية الدينية»، التي ترفع شعار «إسرائيل الكبرى»، وتريد إعادة احتلال قطاع غزة، وضم الضفة الغربية كلها، بعد التهويد الكامل للقدس، جريا وراء أوهام وأساطير توراتية، عارضوا على أساسها ترك سيناء والجلاء عن غزة، ويرفضون ما يسمى «الوضع القائم» في المسجد الأقصى، ولا يكتفون بالتقسيم الزماني والمكاني، ويطمحون لإعادة بناء ما يسمى «هيكل سليمان» على أنقاض الأقصى، ومضاعفة عدد المستوطنين في ما يسمى «يهودا والسامرة»، التي هي الضفة الغربية، وجلب ملايين اليهود لاستيطانها، والاعتراف الحكومي الإسرائيلي بالمستوطنات العشوائية، وإضافتها لمستوطنات رسمية، يقال إن عدد شاغليها اليوم يزيد على 500 ألف، ودفع العرب الفلسطينيين إلى هجرة و»ترانسفير جماعي» إلى خارج فلسطين، وبديهي أن ذلك كله لا يمكن له أن يتم بغير حرب إفناء شاملة، واستخدام الحد الأقصى من القوة المسلحة، وهو ما جربه الكيان الإسرائيلي مرات في العقود الأخيرة، وعجز في كل حروبه عن هزيمة مقاومة غزة منفردة، فما بالك بهدف سحق الفلسطينيين جميعا، ومن دون وعي بالحقائق الصلبة على الأرض اليوم، أولها أن الشعب الفلسطيني، الذي ينكرونه ويتعامون عن وجوده، صار شعبا مختلفا عن الذي صادفوه وصادفهم في نكبة 1948، ونفذوا فيه مجازر الطرد والتهجير وقتها، وقذفوا إلى الصحراء بنحو 800 ألف فلسطيني، تزايد نسلهم في الشتات إلى نحو سبعة ملايين اليوم، وظل مثلهم يواصل وجوده الراسخ في الأراضي المحتلة بعدوان 1967، وفي الداخل الفلسطيني المحتل منذ عام 1948، أي أن الغلبة السكانية صارت للفلسطينيين من جديد في فلسطين التاريخية كلها، وهو ما تخوف منه شارون في حملته العسكرية الدموية على الضفة قبل عشرين سنة، وقال وقتها، إن الإسرائيليين يعودون إلى حرب 1948 مع الفلسطينيين، أي أن القصة تعاد كتابتها من أول سطر، فقد كان الفلسطينيون المسلمون والمسيحيون هم أغلبية السكان عشية النكبة، وهو ما يعود اليوم باطراد، بعد سبعة عقود ونصف العقد، وكأن الفلسطينيين يعودون من منافي التاريخ، ولكن ليس كحملان تفر من الذئاب هذه المرة، بل كأسود في عرينهم ووطنهم التاريخي المقدس، وكشعب عفي يستعصى على الذوبان أو الاستئصال، خبروا عدوهم في المحنة التاريخية الطويلة، وعرفوا نقاط الضعف فيه، كما عناصر قوته وشراسته، فإسرائيل اليوم، تحمل على كاهلها كل أسلحة الدنيا، وأعقد تكنولوجياتها وقنابلها النووية، لكن الجسد الاستيطاني، تستوطنه أمراض وعوارض التآكل، ولم يعد بوسعه مد أقدامه وحضوره على كامل الأراضي المقدسة، فقد تضاءلت الهجرات «اليهودية» إلى الكيان، وكانت هجرة ما يسمى «اليهود السوفييت»، هي آخر مدد مؤثر في تدفقات الاستيطان، بينما الكتلة الأخرى الكبيرة المتبقية خارج الكيان هي اليهود الأمريكيين، وهؤلاء على استعداد لدعم الكيان بالهبات والتبرعات وحملات الضغط، لكنهم لا يقبلون غالبا الذهاب إلى أرض النار، مستعدين لدفع نفقة «المطلقة» كما كان يقول الراحل المفكر عبد الوهاب المسيري، وهنا جوهر المعضلة الوجودية التي يعانيها كيان الاحتلال، فقد بدأت سيرته بدعوى إقامة وطن قومي نقي لليهود وحدهم في «أرض الميعاد»، ولم يغفلوا شيئا في التخطيط والتدبير والاستعانة بأقوياء العالم، وزرع الكيان الاستيطاني الإحلالي في قلب فلسطين، لكن أي كيان استيطاني لا ينتصر ويبقى إلى النهاية، إلا في حال استئصال الشعب الأصلي أو تهميش وجوده، وهو ما حدث ويحدث عكسه في الحالة الفلسطينية، وقد حذر علماء السكان اليهود الصهاينة مبكرا مما سموه «حروب غرف النوم»، والفجوة المتسعة لصالح الفلسطينيين في معدلات الإنجاب، ومن العلماء إلى الساسة والمهووسين، زحف الخوف إلى حركة الحاخام «مئير كاهانا»، الذى كانت تفزعه حالات اختلاط اليهود بالفلسطينيين، وزواج الفتيات اليهوديات من شبان عرب، وقد قتل «كاهانا» على يد شاب مصري في نيويورك في ما بعد، وزحف تلاميذ وأبناء «كاهانا» اليوم إلى سدة الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وصار بن غفير وسموتيريتش وغيرهما في عداد الوزراء لا المطاردين بحكم القانون، يحملون راية الإفناء والتهجير الكامل للفلسطينيين، ومن دون إدراك للحقائق المستجدة الصادمة لأوهامهم، وقد لا يكون من بأس في أن يحاولوا وسيفعلون، ولن تكون النتائج المباشرة في النهاية سوى بث الخوف والرعب والفزع في أوساط ونفوس الإسرائيليين، ودفع المزيد منهم لمواصلة أشواط الهجرة العكسية إلى خارج فلسطين، وجعل «التطرف اليهودي» نكبة على «إسرائيل» ذاتها، بينما الفلسطينيون صاروا في مكان آخر، لا ترعبهم وحشية جيش الاحتلال وقطعان المستوطنين، وقد خبروهم واعتادوا على مقاومتهم، فالمزيد من التطرف الإسرائيلى يستجلب المزيد من البسالة الفلسطينية، ويخرس أصوات الاستنامة والتنسيق الأمني والتعايش والتفاوض، ولا يبقى في الميدان سوى قضية الوجود لا الحدود، فلا مهرب للفلسطينيين اليوم سوى إلى فلسطين نفسها، ولا بديل عن المقاومة وتلبية نداء الدم والمعركة المقدسة، وجعل بقاء الاحتلال نقمة على أصحابه ورعاته، وليس بوسع كيان الاحتلال مهما قتل، أن يباري الفلسطينيين في مواجهات بلا سقوف، ينزف فيها الطرفان، لكن مقدرة الفلسطينيين على الصبر واحتمال التضحيات بلا حدود، والتصاقهم بأرضهم ومقدساتهم لا ينافس، وشعبهم الراسخ المتكاثر المتعلم العفي المؤمن بقضية التحرير، يوالى عاداته اليومية في ولادة الجند والشهداء والأغاني، ويثق في نصر الله مهما استطال الزمن، ومهما تزايدت العقبات والمكاره، فقد سقطت اتفاقات «أوسلو» وقيودها فعليا، وسقط عهد الاحتلال زهيد التكلفة، ولم يعد عند جيش الاحتلال من اختيار، سوى أن يدفع تكلفة الدم ونسف الهدوء المصطنع، أو أن يقرر الرحيل من طرف واحد، تماما كما فعل في غزة قبل نحو عشرين سنة.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)