عبد الحليم قنديل يكتب: انتفاضة الأقمار السبعة

profile
  • clock 29 أكتوبر 2022, 9:14:38 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

في فلسطين وحدها يحدث هكذا، كان المشهد يخلع القلب فرحا وبشرا، ثلاثة آلاف شاب فلسطيني «مقدسي» تدفقوا في دقيقة إلى منزل الشهيد عدي التميمي، وإلى واجب وشرف مواساة أمه المكلومة، الحبيسة جبرا في بيتها في ضاحية السلام المجاورة لمخيم «شعفاط» على حواف القدس المحتلة، وما تكاد الأم تفيق من ذهولها، حتى يأتيها حشد آخر جليل ملائكي الطلعة، كأنه قادم رأسا من الجنة، أمهات الشهداء تتقاطرن من ك ل حدب وصوب، كل أم شهيد تعرف نفسها فخورة باسم ابنها البطل، وتنحني لتقبل رأس أم عدي، وتربت على كتفها وتأخذها في حضنها.
صور توالت في خشوع، لا يرقى إلى مراتبه خيال صناع الدراما السينمائية، لكنها جرت في عفوية مرئية، ربما لتلاقي وتكافؤ دراما أخرى غير مسبوقة، أحيا بها عدي ذكر وفعل آباء الأمة المجاهدين الأوائل، فقد رحل عدي، من دون أن يسلم نفسه لمطارديه الأعداء، وكانت قوات الاحتلال قد فرضت حصارا خانقا على مخيم «شعفاط» وبلدة «عناتا» وضاحية السلام، وراحت تبحث عن عدي في كل حارة وزقاق ووراء كل حجر، واعتقلت شقيقه قاسم للضغط عليه، واعتقلت أمه في منزلها، وواصلت الحصار المقبض لعشرة أيام كاملة، استعانت فيها دولة الاحتلال بالعملاء وبالمسيرات، وبأعقد برامج تكنولوجيا التجسس، ومن دون أن تصل لظل البطل، الذي لم يكن قد أكمل بعد عامه الثالث والعشرين، وظهر حليق الرأس في عمليته البطولية الخارقة، حين ترجل من سيارته عند حاجز «مخيم شعفاط» العسكري، وأخرج مسدسه من جيبه بهدوء وثبات، وأطلق النار من المسافة صفر على جنود الاحتلال، وصرع مجندة إسرائيلية وأصاب آخرين، وقبل أن تنتبه قوات الاحتلال من وقع المفاجأة المذهلة، كان عدي يعدو بسرعة البرق إلى زحام المخيم، وإلى دفء وحماية شعبه وشبابه، الذين سارعوا إلى حلق الرؤوس تيمنا وتشبها بالبطل الأسطوري، وتضليلا لأجهزة أمن الاحتلال في المخيم وفي القدس، وأزالوا كاميرات المراقبة المنصوبة في كل مكان، وأكثروا من ترديد وكتابة اسم عدي في المكالمات والرسائل الهاتفية.

حركة «عرين الأسود» صارت عنوانا لانتفاضة شعب لا تهدأ حركته ولا تنهزم، فقد خرج الجيل الفلسطيني الجديد من قبو الفصائل وحساباتها الضيقة

لكن عدي المختفي كان يفكر في شيء آخر، كان يريد أن يختتم حياته القصيرة ببطولة أخيرة، وكما كان هو المهاجم المزلزل عند حاجز «شعفاط»، فقد اختار عند استشهاده العمدي زلزلة أخرى، واقترب جدا من حراس مستعمرة «معاليه أدوميم»، وأطلق الرصاص من المسافة صفر ذاتها، كان فردا وكانوا جمعا، ولم ينقطع رصاصه أبدا مع تكاثر الجراح وسيل الدم النازف من جسده الطاهر، ولم يسكت صوت رصاصه إلا مع شهقة الروح الأخيرة. لم تكن هذه رواية ولا «عنعنات»، بل صورا حية في «الفيديوهات»، قد تكتمل أسطوريتها مع رواية انتشرت عن وصية الشهيد الحي عند الناس وعند ربه، الذي تجاوزت بطولته خيالات الشعراء، فقد تردد أنه كتب وصيته بخط يده، وقال فيها وقت إن كان مطاردا، ما معناه، «كنت أعلم أن عمليتي لن تحرر فلسطين، لكني أردت منها رسالة لشباب فلسطين، أن يحملوا مئات البنادق من بعدي»، وشاءت الأقدار أن تتحول الوصية إلى نبوءة تتحقق توا، وأن تأتي معركة نابلس بعد استشهاده مباشرة، فقد تعرضت نابلس هي الأخرى لحصار ثم لاقتحام، ودار الصدام عنيفا بالرصاص الحي في المدينة القديمة بقلب نابلس الممتدة، وارتقى للشهادة ستة شباب في أخضر العمر، توالت أسماؤهم مضيئة ملهمة على شريط البطولة الاستثنائية، وهم حمدي شرف ومشعل بغدادي وقصي التميمي وحمدي القيم وعلي عنتر ووديع الحوح، أحد قادة حركة «عرين الأسود»، استشهد الستة وهم يقاتلون، وعلا نجمهم مع سابقهم وسابعهم عدي التميمي، وزينت أقمار الشهداء السبعة سماء فلسطين، في إشارة مقدسة موحية لانتفاضة الروح الجديدة في القدس، ومدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، فيما بدت الهمجية والوحشية الإسرائيلية مددا لانتفاض جديد، عشرات الألوف خرجوا في وداع الشهداء في نابلس وقرية النبي صالح، ودعوة «عرين الأسود» لإضراب عام في الضفة والقدس وغزة، نجحت بنسبة مئة في المئة، وزاد تسابق المدن والمخيمات لإنشاء كتائب سلاح جديدة، عابرة للفصائل المتنازعة كلها، من «كتيبة جنين» إلى «كتيبة الخليل» إلى «كتيبة نابلس»، التي ارتقى مؤسسها إبراهيم النابلسي شهيدا وهو يقاتل قبل شهور، وتحولت «كتيبة نابلس» من بعده إلى حركة «عرين الأسود»، وصارت عنوانا لانتفاضة شعب لا تهدأ حركته ولا تنهزم، فقد خرج الجيل الفلسطيني الجديد من قبو الفصائل وحساباتها الضيقة، وانشقت قطاعات من أجهزة الأمن الفلسطينية عن طاعة فعل الأمر الإسرائيلي، وخرجت عن حيادها البارد في «معركة نابلس» المتصلة بالحصار والقصف والمطاردات، حتى ساعة كتابة هذه السطور، ولم يعد بوسع أحد أن يوقف انتفاضة شعب، لم تشهد القدس والضفة مثلها منذ عشرين سنة، حين كانت «الانتفاضة الثانية» في ذروة اشتعالها، وحين صمدت «جنين» وحدها في وجه حملة المقبور آرييل شارون، التي فشلت في وأد سلاح المقاومة، تماما كما يجرى اليوم لحملة «كاسر الأمواج» التي يقودها بيني غانتس وزير الحرب الإسرائيلي، ويريد منها إطفاء جذوة انتفاضة الشعب الفلسطيني، وعن ظن أن التهديد بالقتل والأسر اليومي يخيف الشعب الفلسطيني، ويخمد نار انتفاضته، التي تتقد أكثر مع وداع الشهداء، ومع جنازات الاحتشاد الشعبي الهائل، المصمم على اتصال الكفاح حتى بلوغ أهداف التحرير الكامل، وعلى مراحل تتدرج حتى تصفية المشروع الصهيوني، وإقامة دولة ديمقراطية شاملة على كل التراب الفلسطيني.
نعم، لا يهم عند الفلسطينيين، ولا عند غيرهم، أن يفوز نتنياهو، أو خصومه في الانتخابات الإسرائيلية الوشيكة، وهم يريدون كسب قلوب ناخبيهم المحتلين بقرابين الدم الفلسطيني، وقد أزهقوا أرواح المئات وجرحوا وأسروا الآلاف في الشهور الأخيرة الملتهبة، وجعلوا حياة ملايين الفلسطينيين جحيما لا يطاق، وفشلوا مع ذلك في الوصول لحكومة إسرائيلية مستقرة، رغم توالى خمس دورات انتخاب عبر الثلاث سنوات الأخيرة، ومن دون أن يدركوا الحقيقة، وهي أنه لا جدوى من تبديل الوجوه الكئيبة، ولا فرق بين يائير لبيد ونفتالي بينيت وبنيامين نتنياهو، فكلهم لصوص ومغتصبون ومتعصبون وفاشيون، وجيش الاحتلال يخسر كلما قمع وتجبر، ويتراجع بمعنويات جنوده ومجنداته، ويوقع جموع المحتلين الإسرائيليين في شراك الخوف من العمليات الفدائية المفاجئة، التي لم تعد حكرا على فصائل فلسطينية بعينها، بل صارت رياضة شعبية فلسطينية، وفي كل الأراضي الفلسطينية من نهر الأردن إلى البحر المتوسط، وكلما بدا أنها قمعت، عادت من جديد في صورة أعفى وأكثر حيوية وابتكارا، فالذي يتحرك هذه المرة هو الشعب وأجياله الجديدة، بعد أن ضاق الفلسطينيون بنزاعات الفصائل، وتسابق القيادات على كعكة سلطة مهينة، يدرك الفلسطينيون اليوم أن ذهابها أجدى من بقائها، وأن زوالها يرعب الإسرائيليين لا الفلسطينيين، فالسلطات الوطنية تنهض بعد التحرير ومعه لا قبله، واتفاقات «أوسلو» وأخواتها أعاقت حركة التحرير الفلسطينية، ووفرت لقوات العدو عقودا من التوحش الاستيطاني والاحتلال منخفض التكاليف، وهي تسقط اليوم بقرار الشعب لا باجتماعات الفصائل، ولم يعد لأي فصيل فلسطيني مخلص، إلا أن يلتحق بحركة الشعب الفوارة، لا أن يصدر أوامر وتقييدات، لن تجد من يطيع أو ينفذ، ولدى الشعب الفلسطيني تراث فريد من عبقرية التنظيم الذاتي، وكل المحن التي توالت عليه عبر قرن من الزمان زادته خبرة وتصميما على الفوز المحقق هذه المرة، خصوصا مع توالد أجيال فلسطينية جديدة، أفضل تعليما وأعظم إقداما وتصميما على اجتياز المستحيل، ببركة صحوة القدس من حول مسجدها الأقصى المبارك، وبزاد من حرب «سيف القدس» أواسط 2021، التي أنهت عزلة الفلسطينيين عن الفلسطينيين، ووضعت حدا لتجزئة الشعب الفلسطيني في الداخل المحتل، ووحدت إيقاع كفاحه التلقائي، وراكمت صورا من الإبداع العابر للحواجز المسلحة وفواصل الجغرافيا، وجعلت غزة والقدس ونابلس وجنين، في قلب اللد وحيفا ويافا وبيرسبع، وأعادت النجوم التائهة لمداراتها الأصلية، وهو تطور لم تدرك الهمجية الإسرائيلية مغزاه وخطره ولا مضاعفاته، بل لا تريد أن تراه أصلا، وتتصور أن بوسعها الاحتماء من وراء جدار القوة العسكرية وحواجز الفصل العنصري، وهذه إن ضمنت الأمن ساعة أو شهرا أو سنة أو سنوات، فإنها لا تضمن البقاء الممتد لكيان الاحتلال، الذي تتزايد في صفوفه ظواهر الهجرة العكسية، ويعجز عن التباري مع الفلسطينيين في حروب السكان، وفي حروب الشهادة والدم الذي يهزم السيف حتما.
كاتب مصري

التعليقات (0)