صبحي حديدي يكتب: تركيا الـ«صفر مشاكل»: هل يحوم شبح داود أوغلو؟

profile
  • clock 20 يناير 2023, 12:08:47 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

لم يعد ثمة الكثير من الارتياب في أنّ تركيا تواصل حصد مكاسب دبلوماسية، لكنها في جوهرها مغانم اقتصادية واعتبارات جيو ـ سياسية لا تخفى، من وراء الحفاظ على ميزان اتصال توافقي دقيق بين روسيا وأوكرانيا؛ أفسحت المجال، الآن، لمستوى من التعاطي مع ملفات الحرب الدائرة يبلغ درجة الوساطة بين موسكو وكييف، يتجاوز نجاحات صادرات الحبوب وتبادل الأسرى إلى ما ترتيبات تفاوضية عنوانها (بالغ الطموح والتمنّي) التوصل إلى اتفاق سلام.
في ملفات أخرى تبدو المصالحة التركية ـ الإسرائيلية، التي تُوّجت بتبادل السفراء بعد زيارات رئيس دولة الاحتلال إسحق هرتزوغ إلى أنقرة، ووزير الخارجية التركي إلى تل أبيب، بمثابة نقلة نوعية تستكمل سيرورات انفتاح متبادل بين تركيا وكلّ من مصر والإمارات والسعودية؛ بعد سنوات من الخصام والقطيعة. الأعلى دراماتيكية في هذا الحراك التركي، وإنْ كان أقلّ قيمة وأدنى مرتبة من حيث التجسيد على الأرض وفي النطاقات الميدانية، هو استجابة أنقرة لوساطة روسية استهدفت إعادة الدفء إلى العلاقات بين تركيا والنظام السوري؛ وقُيّض للعالم أن يستمع إلى تصريح من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شخصياً، يقول فيه إنه «ليس هناك خلاف أو استياء أبدي في السياسة»، و«يمكننا إعادة النظر مجدداً في علاقاتنا مع الدول التي لدينا معها مشاكل. ويمكننا القيام بذلك بعد انتخابات حزيران (يونيو)، ونكمل طريقنا وفقا لذلك».
صحيح، بالطبع، ما يسوقه غالبية مراقبي المشهد التركي من أنّ معظم هذه الملفات، وخاصة ما يتصل باستئناف التعاطي مع النظام السوري، ذات صلة بالانتخابات الرئاسية التركية المقبلة؛ حيث يسعى أردوغان إلى تخفيف سلسلة من الأوجاع الداخلية الناجمة، اقتصادياً في المقام الأوّل، عن نزوعات إدارته إلى التسخين مع الجوار والخارج عموماً؛ والسعي، في الآن ذاته، إلى تجيير المعالجات للمشاكل المختلفة لصالح ترقية صورته في ناظر الرأي العام التركي، أبعد من جمهوره وأنصار حزب «العدالة والتنمية»، أو الشرائح الشعبوية التي تتلمس في شخصه ملامح سلطانية عثمانية. غير أنّ هذا العنصر، أي انتخابات حزيران (يونيو) المقبلة، لا تطمس الأبعاد الأخرى خلف مبادرات الانفتاح التركي، وعلى رأسها طبائع أردوغان في التقلّب والتنقّل والتحوّل، وفي قياس الماضي والمستقبل طبقاً لمعطيات الراهن.
وبين أن يُحكم على منهج كهذا من منطلق توصيف انتهازي، مفتقر إلى المبدئية، ذرائعي بالمعنى الهابط للمصطلح؛ أو، على النقيض، من منطلق التثمين العقلاني، والتبصّر، والذرائعية بالمعنى الصوابيّ للمصطلح؛ ثمة مفارقة جلية، دراماتيكية بدورها كما يصحّ القول، تتمثل في أن تركيا أردوغان إنما ترتدّ بذلك إلى تركيا أحمد داود أوغلو، الذي سبق له أن تولى مناصب رفيعة مثل وزارة الخارجية ورئاسة الوزراء ورئاسة «العدالة والتنمية»؛ الذي لا يتردد كثيرون في اعتباره «كيسنجر تركيا»، واعتاد خصومه في صفوف الأتراك القوميين في الارتياب بأنه يمثّل سياسة «نيو – عثمانية». وأمّا مظهر الافتراق، في هذه العودة (المقنّعة حتى الساعة) إلى أفكار الرجل وتطبيقاته الدبلوماسية، فإنها تبدأ أولاً من حقيقة إقصائه خارج دائرة المقرّبين من أردوغان، وإبعاده عن قيادة الدولة والحزب، ومبادرته إلى تأسيس حزبه الخاصّ الذي يحمل اسم «المستقبل»، و… المشاركة في ائتلاف الأحزاب المناهضة لأردوغان، والمطالبة بدستور جديد ونظام برلماني على أنقاض الرئاسي الحالي.

يبقى أنّ شبحاً يحوم حاملاً معه أطياف مبدأ مركزي في تبريد النزاعات إلى درجة الصفر، أمر مختلف عن الشبح ذاته وقد انقلب إلى خصم سياسي، حليف لتكتل أحزاب لا تروم هدفاً آخر أهمّ من الإطاحة برئاسة أردوغان، وإعادة النظام الرئاسي الحالي إلى سابق عهده البرلماني

وليس من المبالغة الافتراض بأنّ داود أوغلو هو اليوم أقرب إلى شبح يجوس الحياة الحزبية والسياسية الداخلية في تركيا، وهو لا يستقرّ في نواة عميقة من هواجس أردوغان شخصياً فحسب؛ بل يدفع الرئيس التركي إلى مزيد من خطوات الخيار الشهير «صفر مشاكل»، أو النظرية الأمّ الكبرى التي صنعت بصمة داود أوغلو في تاريخ تركيا المعاصرة.
وهذا الرجل من مواليد 1959، وقد وفد إلى السياسة من البوّابة الأكاديمية إذْ كان أستاذاً للعلاقات الدولية في الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا، وفي جامعتَيْ مرمرة وبيكنت في تركيا، واعتمد مقاربة بسيطة في إدارة السياسة الخارجية التركية، قائمة على مبدئين ليس أكثر. ولقد سبق له أن ناقش الخطوط العريضة للمبدأين في كتابه الشهير «العمق الستراتيجي: موقع تركيا الدولي»، الذي صار قراءة إلزامية لكلّ دبلوماسي على صلة بالشأن التركي، رغم أنّ الكتاب لم يكن متوفراً في أيّ من اللغات الإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية. مؤلفاته الأخرى متوفرة في لغات أوروبية، ولعلّ على رأسها كتابه «الهزّة المنتظمة والنضال من أجل نظام دولي»، 2020؛ و«منظورات بديلة: تأثير رؤية العالم الإسلامية والغربية على النظرية السياسية»، 1994.
المبدأ الأول، إذن، هو أنّ على تركيا إقامة روابط وثيقة ليس مع أوروبا والولايات المتحدة فقط، رغم أهمية هذه العلاقات، بل يتوجب تطوير علاقات متعددة المحاور مع القوقاز، والبلقان، وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط، وأفريقيا، وجنوب شرق آسيا، والبحر الأسود، وكامل حوض المتوسط. ذلك لأنّ تركيا ليست مجرّد قوّة إقليمية، في نظر داود أوغلو، بل هي قوّة دولية ويتوجب عليها أن تتصرّف على هذا الأساس؛ فتعمل على خلق منطقة تأثير تركية ستراتيجية، سياسية واقتصادية وثقافية. ولم يكن غريباً أنّ وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق هيلاري كلنتون ثمّنت عالياً هذه المرونة التركية في التعامل مع محاور مسلمة ومسيحية ويهودية، في العالم العربي والإسلامي، وفي أوروبا وإسرائيل؛ فأطلقت على تركيا لقب «القوّة الكونية الصاعدة».
المبدأ الثاني هو اعتماد سياسة «الدرجة صفر في النزاع» مع الجوار، من منطلق أنه أياً كانت الخلافات بين الدول المتجاورة، فإنّ العلاقات يمكن تحسينها عن طريق تقوية الصلات الاقتصادية. وفي الماضي كانت تركيا تحاول ضمان أمنها القومي عن طريق استخدام «القوّة الخشنة»، «لكننا نعرف اليوم أنّ الدول التي تمارس النفوذ العابر لحدودها، عن طريق استخدام ‘القوة الناعمة’ هي التي تفلح حقاً في حماية نفسها»، كما ساجل داود أوغلو في كتاباته العديدة. وهو، على أساس من هذا المبدأ، كان واثقاً من أنّ الحاجة متبادلة تماماً بين أوروبا وتركيا: «بقدر ما صارت أوروبا محرّك سيرورة التغيير في تركيا، بقدر ما ستصير تركيا محرّك تحويل للمنطقة بأسرها».
والحال أنّ تلك المقاربات أعطت نتائج دراماتيكة في علاقات تركيا مع جميع جيرانها تقريباً، وعلى حدودها الأوروبية والآسيوية، وخارج تلك الحدود أيضاً، كما في الدور الذي سعت إلى لعبه في لبنان حين شاركت في قوّات الأمم المتحدة التي نُشرت هناك بعد العدوان الإسرائيلي صيف 2006؛ وفي احتضان المفاوضات السورية – الإسرائيلية غير المباشرة، وإقامة علاقة ثلاثية مع إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية وحركة «حماس»، ثمّ القيام بجهود ميدانية مكوكية للتوصل إلى وقف لإطلاق النار أثناء العدوان الإسرائيلي على غزّة، واكتساب شعبية واسعة في الشارع العربي بسبب انسحاب أردوغان من سجال مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس في ملتقى دافوس. هذا بالإضافة إلى دور تركيا المتزايد في أفغانستان والباكستان والهند.
يبقى أنّ شبحاً يحوم حاملاً معه أطياف مبدأ مركزي في تبريد النزاعات إلى درجة الصفر، أمر مختلف عن الشبح ذاته وقد انقلب إلى خصم سياسي، حليف لتكتل أحزاب لا تروم هدفاً آخر أهمّ من الإطاحة برئاسة أردوغان، وإعادة النظام الرئاسي الحالي إلى سابق عهده البرلماني؛ فكيف وأنّ داود أوغلو لا يبدأ المعادلة من ركائز علمانية أو أتاتوركية أو قومية، بل من حجر أساس عالي الجاذبية، هو… رؤية العالم إسلامياً!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

التعليقات (0)