بلال التليدي يكتب: في الحاجة لتحرير الرياضة من خطاب الفتنة

profile
بلال التليدي كاتب وسياسي من المغرب
  • clock 20 يناير 2023, 12:24:47 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

مع اقتراب تنظيم الجزائر لـ«الشأن» دخل التوتر في العلاقات المغربية الجزائرية إلى مجال الرياضة، وصار الاستقطاب على «الاتحاد الإفريقي لكرة القدم» على أشده، لاسيما بعد أن قدمت كل من الجزائر والرباط ملفيهما للترشيح لاستضافة كأس إفريقيا للأمم 2025 (الكان).
والواقع، أن هذا التوتر بلغ مستويات كبيرة، جعلت التوصيف الأقرب إلى وسمه هو السقوط في مربع «الفتنة»، بعد أن انعكس الخلاف السياسي بين البلدين بكل ظلاله على الفعاليات الرياضية.
لا يهمنا الجواب عن سؤال المسؤولية في إطلاق شرارة هذه «الفتنة»، فهذا السؤال ينتمي إلى حقل السياسة، أو هو بالأحرى، يزيد من تبرير واقع الفتنة التي وصل إليها تدبير العلاقة بين البلدين، لكن الضروري بالنسبة لأي مثقف أو مفكر، أن ينخرط في بناء نقاش مختلف، يحاول أن يعيد تأسيس العلاقة بين السياسة والرياضة بالشكل الذي يجعل الرياضة تقوم بدورها في تليين توترات السياسة، أو على الأقل، يبقي على حياد الشعبين، ويترك صراع السياسة للنخب، ويجعل الرياضة مجالا للقاء الشعوب.
ثمة من يتصور بشكل نظري أن المعادلة التي تربط الرياضة بالسياسة، ينبغي أن تبقى في حدود بذل السياسات العمومية لمجهودات لتوسيع البنيات والتجهيزات الرياضية والنهوض بالرياضة في مختلف مستوياتها دون مجاوزة هذا الحد. وثمة من يرى وضع حد فاصل بين الرياضة والسياسة، بالشكل الذي يجعل الرياضة تتمتع بوضع مستقل، وتتحرر من ضغط معارك السياسة وتوترات العلاقة بين البلدان، لكن في الواقع، يصعب التصور العملي لمثل هذه المقاربات، فالنهوض بالرياضة وأوضاعها، لا يخرج عن حدود الإشعاع الخارجي الذي تريد كل دولة أن تحققه، وبلوغ هذا الهدف في حد ذاته، يتطلب المرور من أجواء المنافسة وأحيانا الصراع، لاسيما إن تعلق الأمر بفعاليات رياضية كبيرة، تسهل تجسير عملية تحقيق الإشعاع وتساهم في تسريع الإقلاع والنهوض الاقتصادي، ففعالية كبيرة في وزن «الكان» التي تتطلع البلدان بشرف تنظيمها، يصعب إقناع الاتحاد الإفريقي لكرة القدم (الكاف) دون بذل جهد في كل المستويات، بما في ذلك الدبلوماسية منها، وما يتطلبه الأمر من اصطفافات وتحالفات لكسب أصوات الدول الإفريقية للتصويت على ملف الترشيح، وهو جهد يصعب تحقيقه فقط من خلال اتحادات كرة القدم، بل لا بد من يد الدول وإمكاناتها وحراكها الدبلوماسية.
البعض يمسك ببعض نقاط التوتر، ويحسب أن المشكلة تقف عندها، فموضوع حضور المغرب أم تعذر حضوره، أخذا بعين اعتبار الرواية المغربية والرواية الجزائرية، ليس في الجوهر هو المشكلة، فهذا في الحقيقة ليس إلا تفصيلا صغيرا، يندرج ضمن رؤية أشمل تتعلق بصراع سياسي، انعكس على واقع الرياضة، فتحول إلى تحدي من يحظى بشرف تنظيم «الكان» سنة 2025؟
ثمة أسلحة كثيرة استعملت في هذا الصراع، برزت في شكل معارك إعلامية صرف أغلبها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تمحورت حول مواضيع مختلفة، تهم التجهيزات الرياضية واللوجستية، ومدى قابليتها لاستضافة هذا الحدث الرياضي المهم، وتهم القدرات التنظيمية والإبداعية، وتهم أيضا الجمهور وشكل تعامله مع المشجعين من الفرق الأخرى (عنف الملاعب)، وتهم إقحام مواقف سياسية لبلد مستضيف وتحميل «الكاف» مواقف سياسية لا يتحملها (خطاب حفيد مانديلا)، وتهم أيضا حدود المرونة في تدبير السياقات الاستثنائية التي يفرضها جدل العلاقة بين السياسة والرياضة (فتح الأجواء أو إغلاقها في وجه الناقل الرسمي للمنتخب المغربي للمحليين).

الرياضة، هي فضاء للقاء شعوب الأمة، وهي المجال لتصريف مشاعر الوحدة والأخوة والتضامن والتحرر من إكراهات السياسة التي تنتجها النخب

على أن الأمر لم يتوقف عند حدود هذه الأسئلة، بل استعملت أسلحة أخرى، كتبني أطروحة المؤامرة، وتوجيه اتهامات لمسؤولين في «الكاف» بالارتشاء، وتقديم صورة لرئيس الجامعية المغربية الملكية لكرة القدم على أساس أنه الآمر الناهي في هذه المنظمة، وأن موضوع الترشيح قد حسم لفائدة المغرب قبل أن تستقبل الطلبات وتدرس ويتم الحسم فيها، وممارسة ضغوط على الاتحاد الإفريقي لكرة القدم لمحاصرة اختيارات أعضائه في اللجنة التنفيذية.
الواقع، أن هذا الصراع ليس جديدا، فقد كانت عناصره موجودة في السابق، وكانت تدار المعارك بين دول أخرى، لكنها كانت تدار داخل أروقة اتحاد الكرة الإفريقي، ولم يكن الإعلام طرفا فيها، فضلا عن أن يصل شكل إدارتها بهذه الصورة «الفتنوية» التي تظهرها وسائل التواصل الاجتماعي.
الجديد في الموضوع، أن الصراع اليوم بين بلدين يعرفان أعلى مستوى التوتر، وربما يحتاجان أو يحتاج أحدهما لتأجيجه اعتبارا لحاجيات سياسية داخلية، فتوجيه نظر الجمهور لمعارك في الرياضة، وتأجيج مستوى التوتر فيها، ربما يصرف النظر عن مآزق السياسة الداخلية.
مسؤولية المثقف أن ينخرط في التأسيس لرواية أخرى تناهض الرواية الفتنوية، من أي جهة صدرت، وتضع معادلات دقيقة لتدبير المشكلة، فالتوترات التي يتم تجييشها وتأجيجها لا تعني دائما أن ليس هناك ما يبررها، إنما الخطير فيها، أن يتم التغطية عن المعالجة الحكيمة لها، وممارسة الاستقطاب الشعبي على لهيبها لكسب نقاط في السياسة أو التغطية على مآزق داخلية أو لكسب وقت للتغطية على خيارات أخرى يتم تجهيزها، فاستقراء التاريخ والوقائع، يبين أن خلق فقاعات أو معارك إعلامية كبيرة وممارسة تجييش الشعب عليها، يكون مفيدا لترتيب قرارات أو إجراءات وربما لتنزيل سياسات في غفلة عمن يفترض أن يواجهها.
التقدير أن مسؤولية المثقف في مواجهة أجواء الفتنة ينبغي أن تنصرف في ثلاثة مسارات: الأول، يتم رسم معادلة للعلاقة بين الرياضة والسياسة ليس من زاوية التقليعات النظرية غير قابلة للتحقق، بل من زاوية تجارب الشعوب العملية في إدارتها، والثاني، هو ترسيخ الطابع الشعبي للرياضة، وخطورة انتصار مقاربة الدولة على الأمة في هذا الموضوع، فالرياضة، هي فضاء للقاء شعوب الأمة، وهي المجال لتصريف مشاعر الوحدة والأخوة والتضامن والتحرر من إكراهات السياسة التي تنتجها النخب. والثالث، هو تأطير التعبيرات الثقافية والإعلامية بالعناوين التي تضمن بقاء الرياضة في مربع خدمة أهداف الأمة الكبرى لا رهانات الأنظمة والحكومات.
ينبغي التنبيه في المسار الأول إلى أن أي جهد نظري لرسم معادلة للعلاقة بين السياسة والرياضة ينبغي ألا يلغي الطابع الواقعي للمنافسة، بما في ذلك توسل الأسلحة في تدبيرها، لكن، ما هو مركزي في ممارسة الصراع، هو مركزية الطابع العلمي والأخلاقي فيه، بما يجعل النقاش بين الأطراف المتصارعة ممكنا إعلاميا، وذلك بالتواضع على استعمال الحجج بدل التهم والأكاذيب وإشاعات وممارسة التضليل، والاستناد إلى متطلبات المصداقية في إدارة الحوار وما يفرضه ذلك من استعمال أخبار صحيحة والاستناد إلى مصادر موثوقة
وهكذا، يمكن أن نتصور تنافسا على أعلى مستوى بين ملف المغرب والجزائر، ويمكن أن تستعمل كل الأسلحة لإدارة الصراع، فهذا هو الوضع الطبيعي الذي تثبته تجارب الدول الأخرى، لكن الشرط الذي يجعل إدارة الصراع بعيدا عن السقوط في أجواء الفتنة، هو ضرورة حضور الطابع العلمي (الحجة بدل التشهير والاتهام والتضليل) والمصداقية (الاستناد إلى مصادر موثوقة، تقديم معلومات صحيحة….).
من حق المغرب أن يتمسك بحجة منع الناقل الرسمي (الخطوط الملكية المغربية) من خط مباشر من المغرب إلى الجزائر لتبرير ضعف قدرة الجزائر على تنظيم فعاليات دولية، ومن حق الجزائر أيضا أن تبني رواية تستند إلى واقع قطع العلاقات الدبلوماسية ووقوع واقعة سابقة قبل فيها الفريق المغربي لليافعين عبر تونس، على أن تدار هذه الحجج بشكل بعيد عن أجواء الفتنة، وأن يتم الثقة في المنظمة التي أوكل لها الحسم في البلد المستضيف لكان 2025، لا أن يتم التجييش باستعمال أسلحة في كل اتجاه، بما في ذلك اتهام المنظمة الراعية والمنظمة بمحاباة طرف دون آخر، فهذا في الواقع، يمثل خروجا عن الحقل الذي يدار فيه التنافس، وانتهاكا لقواعده.

كاتب وباحث مغربي

التعليقات (0)