سمير العركي يكتب: الإخوان المسلمون ووجوب اعتزال العمل السياسي

profile
  • clock 8 أغسطس 2022, 8:58:43 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

جدل لم ينقطع منذ أن نشرت وكالة رويترز تصريحات الأستاذ إبراهيم منير القائم بأعمال المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين ضمن تقرير أعدته الوكالة عن الحوار الوطني في مصر.

منير الذي يقود أحد طرفي الجماعة عقب انقسامها، أكد أن الجماعة قررت ترك الصراع على الحكم، كما شدد على نبذها للعنف وتأكيدها عدم اللجوء إليه.

هذا الإعلان لم يكن الأول من نوعه، فقد سبقه إعلان مماثل من منير نفسه في حوار لموقع (عربي 21) في أبريل/نيسان 2020، قال فيه ردّا على سؤال عن دعم مبادرة الأزهر الشريف وإعلان الجماعة تأجيل الخلافات مع السيسي بسبب أزمة كورونا، إذ قال:

“لا نطلب أن نكون رؤساء، ولا نريد المشاركة في الحكم مرة أخرى، وما أعلناه كان إعذارا إلى الله، ولنثبت عمليّا أن الجماعة تتعالى على جراحها، دون أن يعني ذلك أن هناك تأييدا ما للسيسي أو لانقلابه الدموي الذي سيظل انقلابا عسكريّا”

الجدل الذي أعقب التصريحات الأحدث تمحور حول حق الجماعة في ممارسة السياسة، وعدم جواز الافتئات على هذا الحق، في مقابل من يرى أن الجماعة يجب أن تكتفي بما خاضته من معارك السياسة وتداعياتها وتعود إلى سيرتها الأولى في الدعوة والتربية وإصلاح المجتمع.

في حين أراد آخرون إمساك العصا من المنتصف، فقالوا إن حديث منير يقتصر على الابتعاد عن الصراع حول منصب الرئاسة، بينما يمكن للجماعة المشاركة في ما هو أدنى، مثل المنافسة في البرلمان (كما كان الوضع زمن مبارك).

الحديث عن المشاركة السياسية في مصر الآن، لا شك أنه يُعد ترفا، إذ لا توجد بيئة سياسية حقيقية في الأساس حتى لأنصار النظام نفسه، وقد رأينا كيف طالت الاعتقالات فاعلين من أنصار وداعمي 30 يونيو، لمجرد أنهم قرروا في وقت ما الاستعداد للانتخابات البرلمانية، ولا يزال بعضهم رهن الاعتقال حتى الآن.

لكن هذا لا يمنع من النظر إلى دعوة منير من زاوية أخرى، وهي الفائدة على عادت على مصر وشعبها من ممارسة جماعة الإخوان المسلمين السياسة.

أنا هنا لا أتحدث عن حزب سياسي من حقه ممارسة السياسة حتى مع إخفاقاته، لأنه في النهاية ينال جزاء الفشل في صناديق الاقتراع، لكني أتحدث عن جماعة ليست ذات إطار قانوني، وذات ارتباطات خارجية عبر تنظيم دولي، وتعد نفسها فوق الأحزاب، حتى مع تأسيسها لحزب في وقت من الأوقات، فقد ظل مكتب الإرشاد فوق الحزب ومؤسساته، وكان في الحقيقة يعد مبدأ الأمر ونهايته.

أزمة الإخوان مع السياسة ليست وليدة السنوات الحالية، ولا هي مقترنة بمكتب الإرشاد الحالي، ولا بالفاعلين الرئيسيين فيه كما يتصور البعض، بل هي أزمة لازمت الجماعة منذ تأسيسها.

بعبارة أخرى، أزمة الإخوان تبدأ من لدن المؤسس الأستاذ حسن البنا يرحمه الله، خلافا لبعض السرديات التي تنادي بضرورة العودة إلى منهج البنا، حلّا لخروج الجماعة من أزمته الحالية.

الفشل الأول في عهد المرشد المؤسس

إذا كان كثيرون يأخذون على الإخوان تفريطهم في المراجعة، فإن الأمر الأشد فداحة، عدم مراجعة أفعال وأقوال البنا نفسه، والتعامل معها بمبدأ القبول والتسليم، واعتبارها المعيار الذي تقاس عليه أفعال وأقوال اللاحقين.

فعلى سبيل المثال، يقول الشيخ سعيد حوى في مقدمة شرحه لرسالة التعاليم “…خاصة وأن المسلمين ليس أمامهم إلا فكر الأستاذ البنا إذا ما أرادوا الانطلاق الصحيح”، ثم يقول “الانطلاقة على غير فكر الأستاذ البنا في عصرنا قاصرة أو مستحيلة أو عمياء، إذا ما أردنا عملا كاملا متكاملا في خدمة الإسلام والمسلمين”.

فالبنا الذي قرر عام 1928 تأسيس جماعة إصلاحية تربوية، سيطرت على ذهنه فكرة الأمة البديلة، خاصة عقب سقوط الخلافة العثمانية وانفراط العقد السياسي للمسلمين.

فقد رأى أنه يمكنه تأسيس جماعة تجمع ما في الأمة من خصال فهي “دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية”.

ومن يتفحص سلوك البنا جيدا يدرك أن الرجل لم يكن يؤسس جماعة إصلاحية مثل التي عرفتها مصر من قبله، بل كان يسعى إلى تأسيس كيان يسيطر به على الحكم ويحقق من خلاله أهدافه.

إذ كان يعتقد أن “الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركنا من أركانه، ويعتمد علي التنفيذ كما يعتمد علي الإرشاد”.

وأكد في رسالة المؤتمر الخامس أن “الحكم معدود من العقائد والأصول لا من الفقهيات والفروع”.

وهنا يثور السؤال: لماذا لم يسعَ البنا إلى تأسيس حزب سياسي خاصة وأن الأجواء السياسية المنفتحة التي أعقبت ثورة 1919 كانت تسمح بذلك؟!

يعود ذلك إلى سببين، الأول: يتعلق بفكرة الجماعة “الأمة” التي كان ينشد تأسيسها، والتي تأتي في مرتبة أعلى من الأحزاب والعمل الحزبي، ونظرته إلى دوره في تلك الجماعة “الأمة” باعتباره مرشدا أعلى لها (ربما يقترب هذا النموذج من نموذج ولاية الفقيه الذي سيظهر لاحقا في إيران). السبب الثاني: أن البنا لم يكن ينظر بود إلى الفكرة الحزبية واعتبرها مخالفة لروح الإسلام وتعاليمه، فقال في رسالة المؤتمر الخامس:

“يعتقد الإخوان أن هناك فارقا بين حرية الرأي والتفكير والإبانة والإفصاح والشورى والنصيحة، وهو يوجبه الإسلام، وبين التعصب للرأي والخروج على الجماعة والعمل الدائب على توسيع هوة الانقسام في الأمة وزعزعة سلطان الحكام، وهو ما تستلزمه الحزبية ويأباه الإسلام ويحرّمه أشد التحريم، والإسلام في كل تشريعاته إنما يدعو إلى الوحدة والتعاون”.

لذا، استعاض عنها البنا بالسعي بدءا من عام 1938 إلى التحالف مع الأحزاب القائمة آنذاك، واختار أحزاب الأقلية ظنّا منه أنه يستطيع السيطرة عليه واتخاذها سلما إلى السيطرة على الحكم.

أحزاب الأقلية في تلك الفترة مثل حزب السعديين (حزب النقراشي) كانت في حاجة إلى تنظيم شعبي مثل الإخوان تواجه به الشعبية الكبيرة لحزب الوفد، لذا رأت أن تستفيد من البنا وجماعته وتستغله لصالحها.

في موازاة ذلك، عمد البنا بدءا من عام 1939 أو 1940 إلى تأسيس النظام الخاص العسكري، وقد اعتبر سعيد حوى -في مقدمة شرحه لرسالة التعاليم التي كتبها البنا إلى أعضاء التنظيم السري- هؤلاء المنضمين إلى ذلك التنظيم بأنهم “الإخوان الحقيقيون”.

وبعد نحو عشرين عاما من تأسيس الجماعة “الدعوية الإصلاحية”، صار لها جهاز إعلامي (صحف ومجلات وقدرات البنا الخطابية) وتنظيم عسكري، وتحالفات سياسية.

لكن كل شيء سيتداعى فجأة، لا بسبب المؤامرات الإمبريالية الصهيونية كما تروّج الجماعة -التي ستعتاد البحث عن مشجب خارجي لتعلق عليها فشلها- بل بسبب دخوله صراعا أكبر من قدراته وتصوراته، التي سيكتشف أن ما يكتبه ويخطب به شيء، أما واقع السياسة وتعقيداتها فشيء آخر.

وسيكتشف أن مصفوفة التغيير التي نحتها هي أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، فهي تبدأ بالفرد المسلم ثم الأسرة المسلمة ثم الدولة المسلمة ثم الخلافة الإسلامية انتهاء بأستاذية العالم. مصفوفة تذكّرنا بالحتميات التاريخية التي تناولها كارل ماركس وفرانسيس فوكوياما والتي ثبت خطؤها.

البنا لن يتأكد من فشل أطروحاته إلا في عام 1948، عندما يندفع الإخوان لتأييد محاولة الانقلاب الفاشلة في اليمن التي ستسفر عن اغتيال الإمام يحيى حميد الدين، تزامنا مع تصاعد نشاط النظام الخاص، الأمر الذي كان بمثابة جرس إنذار للحكومة المصرية حول طبيعة أهداف الإخوان الحقيقية، وربما سعيها إلى الإطاحة بالملك، مما أدى إلى حل الجماعة.

ثم تداعت الأزمة بما هو معروف من قتل رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي، ومحاولة نسف إحدى المحاكم، الأمر الذي أيقن عنده البنا أن مشروعه ينهار، وأسرّ إلى فريد عبد الخالق عضو الهيئة التأسيسية للجماعة، بأنه لو استقبل من أمره لعاد إلى الأوراد والتربية.

لكن لم تمض أسابيع حتى اغتيل البنا في فبراير 1949، لتنتهي المغامرة السياسية الأولى بحل الجماعة واعتقال المئات وتغييب المرشد المؤسس نهائيا، والمفارقة أن هذه التداعيات كانت بيد أحزاب الأقلية حليفة الجماعة، إذ ستكشف لنا أحداث العقود التالية أن كل النكبات جاءت من الحلفاء!!

الهضيبي والفشل الثاني

كان يجب أن تدرك الجماعة أن المشروع الذي أراده البنا انتهى بموته، لكن رغبة الملك فاروق كانت سابقة ونافذة، إذ كان يأمل تكوين ظهير شعبي في مقابل الجماهيرية العريضة التي تمتع بها حزب الوفد، فتم اختيار المستشار حسن الهضيبي من خارج الجماعة ليحل محل البنا، ويستقبله الملك في قصر القبة عام 1951 في لقاء وصفه الهضيبي للإعلام بأنه “دعوة كريمة من ملك كريم”.

لكن الهضيبي سرعان ما يستجيب للضباط ذوي العلاقات الوثيقة بالجماعة من أيام البنا، وينسق معهم للانقلاب على الملك بل على التجربة الديمقراطية برمتها، وتم الانقلاب وبارك مرشد الإخوان تعطيل الدستور الذي كان نتاجا لثورة 1919 والنضال المدني الذي خاضه الشعب المصري عبر أحزابه وقواه المؤثرة.

ثم توالت الأحداث المؤلمة بحل الأحزاب والجمعيات، وكان من الطبيعي أن يذوق الإخوان من الكأس نفسه، ليتم العصف بهم عام 1954 بعد أن ثبّت الضباط الشبان أقدامهم.

ومضت الأحداث بما هو معروف ومسطور، ووجد الإخوان في ما حل بهم من بلاء وسجن مهربا من المساءلة الواجبة عن الخطايا السياسية التي ارتكبوها، وكيف كانوا سببا في العصف بالتجربة الديمقراطية الوليدة.

هنا كان من المنتظر أن يراجع الإخوان أنفسهم ليقرروا طواعية الابتعاد عن السياسة بعد أن طالهم الفشل مرتين، لا يفرق بينهما سوى سنوات قليلة.

لكن القوم آثروا الاستمرار!!

الفشل الثالث ووجوب الاعتزال

خرج الإخوان من السجون في سبعينيات القرن الماضي، ليعيد رجال التنظيم الخاص تأسيس الجماعة من جديد لكن على نمط النظام السري، لتتحول الجماعة كلها إلى تنظيم مغلق (وتلك حكاية أخرى تحتاج شرحا مستقلا)، وتمضي بهم سنوات مبارك الثلاثون ما بين صعود وهبوط، لكنها تظل السنوات الأسعد في تاريخ الجماعة.

إذ اندلعت ثورة يناير 2011 وهم التنظيم الأقوى في البلاد، وانعقدت عليهم آمال الملايين من قطاعات الشعب غير المسيسة ليقودوا قاطرة التغيير، لكن الجميع فوجئ بأداء مخيب للآمال، وفشلت الجماعة في التعامل مع التحديات الماثلة، إذ افتقدت القدرة على رسم استراتيجية تناسب تلك الفترة الانتقالية، التي اتصفت بالتقلبات والمفاجآت، وفشلت الجماعة في التنبؤ بالأحداث ووضع البدائل المناسبة، ولم تستطع الاحتفاظ بحكم أكثر من عام واحد فقط، ووقع الانقلاب الذي لطالما حذّر منه كثيرون، لكن الجماعة صمّت آذانها عن الاستماع إليهم.

لكن المصائب أتت مجتمعة، فقد فشلت الجماعة في التعامل مع تحديات ما بعد الانقلاب، ولم تنجح في الاحتفاظ بجبهة موحدة للمعارضة، بل فشلت في الاحتفاظ بتماسكها الداخلي إذ تشظت إلى جماعتين وربما أكثر، واعتاد الرأي العام على بيانات الملاسنة والفصل المتبادل، وتاهت البوصلة تماما.

ومع هذا الفشل المتكرر الذي لم يقتصر على مصر وحدها بل تعدى إلى الأقطار العربية كما رأيناه في السنوات العشر الأخيرة.

فمتى يدرك الإخوان تأثير تداعيات هذا الفشل العريض عليهم وعلى الأمة وعلى الدعوة الإسلامية نفسها؟

هذا الفشل الممتد زمانيا ومكانيا، يحتم على الجماعة أن تتخذ قرار ترك العمل السياسي اليوم قبل الغد، ذلك القرار الذي كان يجب أن تأخذه في اليوم التالي لاغتيال البنا لكنها لم تفعل!!

فهل يمكن أن تفعلها الجماعة اليوم بعد أكثر من ثلاثة وسبعين عاما؟!

المصدر : الجزيرة مباشر


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)