أحدث الموضوعات
9 ديسمبر 2024
بعد انتهاء التصويت على الموازنة العامة لسنة 2023، وعلى منبر رئاسة مجلس النواب الأردني، تحدث الرئيس المنتخب قبل أسابيع، وأيد رئيس الوزراء بشر الخصاونة في مقولته حول المقبل الأجمل، الجملة العاطفية التي أصبحت تختصر استشهاداً شعرياً ساقه الرئيس في أحد اللقاءات من الشاعر التركي ناظم حكمت.
ما توافقت عليه رئاستي الحكومة والنواب، يبدو بعيداً، وغير معبر عن الكلمات الساخنة التي شهدها مجلس النواب الأردني، وسط أجواء مضطربة شهدت حالات من التشنج نتيجة مغادرة الرئيس قبة البرلمان، قبل أن يشرع بعضهم في الحديث، وكما يبدو بعيداً عن الواقع الذي لم يعد خافياً حول مشاعر السلبية والسوداوية التي تسيطر على معظم الأردنيين، وصولاً إلى حالة العدمية، كما ذهب رئيس وزراء سابق. على بعد آلاف الكيلومترات، كان فريد بلحاج نائب رئيس البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، يتحدث في القمة العالمية للحكومات في دبي، مبدياً قلقه من الأوضاع الاقتصادية في الأردن ومستويات المديونية المرتفعة.
الأحاديث النيابية لم تناقش التفاصيل، وبعضها استدعى موضوعات تمت إلى أمور وأشياء كثيرة ليس من ضمنها الموازنة، وكأن المجلس، ونيابة عن مختلف أطياف الأردنيين، تورط في فضفضة أمام موازنة يعرف الجميع أنه لا يمكن المناورة حولها كثيراً، وحتى مع الحديث عن الإصلاح الاقتصادي من مدخل الاستثمارات، فإن ذلك يهمل أن الأردن لا يستطيع أن ينافس في الجاذبية دولاً تمتلك ظروفاً مواتية لتطلعات المستثمرين من عمالة ماهرة ورخيصة، وتشريعات مرنة، وأن أي حديث عن الاستثمار سيكون بخصوص الأفق العربي الذي يبدو غير مكترث بما يجري في الأردن في هذه المرحلة. في أكثر من خطاب، كان النواب يستدعون فلسطين لتحيتها في نهاية أحاديثهم، ومع أن هذه اللفتة تتقصد الشعبية بصورة واضحة، إلا أنها بصورة مبطنة تمثل جزءاً من مشكلة الأردن الجوهرية بصورة لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها. لم تكن مشكلة الأوروبيين في ترحيل الجماعات (الوظيفية) اليهودية عن أرضها معنيةً بالمكان الذي سيرحلون له، أوغندا أو الأرجنتين أو أي بقعة بعيداً عن القارة العجوز، إلا أن وجودهم في فلسطين، والخلفية التوراتية التي يمكن أن تشجع الهجرة الطوعية، كان يعبر أيضاً عن ضرب الكتلة المنافسة حضارياً في جنوب المتوسط، أي الشعوب التي تحمل الثقافة العربية، من خلال كيان مصطنع يضرب تواصلها الجغرافي. العرب في المفهوم الواسع، يمثلون كتلة ثقافية ـ اجتماعية لا يماثلها في العالم سوى الكتلة التركية الممتدة من منغوليا إلى تركيا، والسلافية في روسيا وشرق أوروبا، وبذلك، أمام الدور الوظيفي لدولة (إسرائيل) كان الأردن يمثل الدولة الوظيفية المقابلة، ليس بالمعنى الذي تناوله النائب الإسلامي ينال فريحات في كلمته، وكان مغرضاً إلى حد بعيد، ويتساوق مع مقولات كثيرة تأسست للطعن في الأردن، ولكن الوظيفية التي يغفلها الجميع، هي التي تغذت على حالة عربية أثناء نصف قرن من الزمن مثّل فيه الأردن خط المواجهة الأطول مع (إسرائيل)، وكانت تعني أن يكون الأردن هو النموذج العربي الذي يقابل (إسرائيل) و(يحاول) مناهزتها بصورة أو أخرى، أمام حادثة الاستلاب التي لم يكن للمنطقة العربية أي قدرات واقعية لمواجهتها.. أي دارس حصيف وموضوعي، لن يتعجب من التراجع الذي يشهده الأردن في السنوات الأخيرة، فمصدر العجب لا بد من أن ينصرف إلى كيف وصل الأردن ابتداءً إلى هذه البنية التحتية والإمكانيات الكبيرة نسبياً، وهو الوضع الذي يمكن تفسيره بتدفقات المساعدات العربية للأردن منذ الخمسينيات، وكان هدفه الأساسي تصدير نموذج (معقول نسبياً)، أمام النموذج (الإسرائيلي)، في تصرف يشبه ما تفعله بعض الأسر حين تهتم بأن تصدر للآخرين في واجهة المنزل ومدخله ما يوحي بأن الأوضاع تمضي بصورة جيدة، مع أن أوضاع الغرف الداخلية، وغرفة الطعام تحديداً، تنفي ذلك جملة وتفصيلاً.
اللاوعي العربي، يحاول مراوغة المنطق التاريخي لتكريس مصالح الفئات التي تسيطر عليه وتتسيده، مع أن الحلول هي في التماهي مع شروط التاريخ بموضوعية وعقلانية
عندما أنهت الأردن الاتفاقية مع بريطانيا، حصلت على تعهدات سعودية ـ مصرية ـ سورية بتعويضها عن المعونة البريطانية، ودفعت السعودية حصتها لتضخ في خزينة أردنية خاوية سنة 1957، كما يذكر المؤرخ محمد المناصير، أما الاستراتيجي والمعلن، وربما غير المفكر فيه، فتمكين الأردن من استكمال مرحلة الاستقلال وخروجه بصورة نهائية من أطياف حلف بغداد، والمبطن نفسياً ومعنوياً، هو القناعة بأن الأردن الصغير والواعد يمكن أن يخفي وراءه المشكلات المتوطنة في العقلية والبيئة العربية في تلك الفترة، خاصة قبل الطفرة النفطية في السبعينيات من القرن الماضي، وكان يكفي أن يتجول أي شخص في عمان في تلك المرحلة، ويقارن طبيعة الحياة فيها مع الكثير من المدن العربية الأخرى الأكبر والأقدم، وكأنها (الصغير الجميل)، أو (بعض الورد) على حد تعبير الشاعر اللبناني سعيد عقل، الذي يقدم في معادلة (ذهنية ومعنوية) للنموذج (الإسرائيلي). تراجعت هذه الوظيفة، وبذلك يعاني الأردن في موسم صعود أوهام جديدة حول شرق أوسط مختلف يدور حول التفوق الإسرائيلي (المتخيل)، وكأنه معطىً غير قابل للدحض، ويترك الأردن بعد أن أدى دوراً مهماً، ألقى أثره على أنماط الحياة والسلوكيات العامة، لدرجة جعلت الدولة في معاناة مستمرة من أجل المحافظة على ذلك، وأمام (مراهقة سياسية) تبدت في بعض الخطابات، واستدعاءات لمقولة (الوظيفية) بمعنى خدمة المشروع (الإسرائيلي)، وليس بمعنى (تمثيل) المشروع العربي، كانت محاولة الهروب للمستقبل. ربما يكون الأمر شعبوياً وشاعرياً أيضاً، وحتى أنه لا يقوم على معطيات حقيقية، ولكن المشكلة في المنطقة العربية، أنها غير منصرفة لقراءة المتغيرات العالمية، وأنها محملة بأعباء التاريخ ولا ترى في المستقبل إلا بعض التكنولوجيا التي يمكن شراؤها من هنا أو هناك (اسرائيل مثلاً!)، أما القراءة السياسية والاجتماعية والثقافية فجميعها أمور غائبة، فاللاوعي العربي، يستشعر فداحة المستقبل ويحاول أن يراوغ المنطق التاريخي من أجل تكريس مصالح الفئات التي تسيطر عليه وتتسيده، مع أن الحلول هي في التماهي مع شروط التاريخ بموضوعية وعقلانية.
القصة أبعد من الموازنة في الأردن، ومن المديونية التي عكست تغيراً في الدور أو (الوظيفة) إذا كان ذلك التوصيف الذي تريده بعض الأطراف، ولكنها في قناعة عامة أن النموذج الذي كان يمثله الأردن لم يعد مطلوباً أو لا يقع ضمن الأولويات، وهذه مشكلة في استراتيجية المستقبل في المنطقة العربية، وفي ظل جميع السيناريوهات، المتفائلة والمتشائمة و(العدمية).
كاتب أردني