سامح المحاريق يكتب: الشيخ أحمد الطيب… ميراث المؤسسة ومستقبل الدولة

profile
  • clock 3 مارس 2023, 2:41:07 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

الرمزية التي يحملها المسجد الأزهر جعلت من المتعذر أن يتم تجاوزه سياسياً، فالمسجد تحول إلى مؤسسة واسعة وعميقة، بقيت تؤدي دوراً تاريخياً مهماً يستند إلى مكانته بين عموم المصريين، وفي أوقات حاسمة، يتم اللجوء إلى الأزهر مهما بلغت الجفوة بينه وبين السلطة، ففي نوفمبر 1956 يتوجه جمال عبد الناصر إلى المسجد من أجل أن يلقي خطابه الشهير بعد صلاة الجمعة، ليعلن قراره بالصمود في مواجهة العدوان الثلاثي، الذي أعقب تأميم قناة السويس، وهي الخطبة التي وضع فيها إيمان الشعب المصري في مواجهة طغيان الدول المعتدية.
كان ظهور أبناء الأزهر بجباتهم وعمائمهم في ميدان التحرير، إيذاناً بنقطة تحول مهمة ودفعة معنوية كبيرة للمعتصمين والمحتجين، وأخذ البعض يستدعي خروجها في مواجهة حملة نابليون قبل أكثر من مئتي عام، وتعلقت الأنظار بشيخ
الأزهر، الذي بقي يتخذ موقفاً متحفظاً تجاه الميدان وتفاعلاته، ولم يكن ذلك
مستغرباً، فالرجل النزيه والهادئ كان يعمل على الإدارة الاعتيادية لمؤسسة الأزهر، التي بقيت بعيدة عن الفعل السياسي أثناء عهد الرئيس حسني مبارك، لدرجة تغولت فيها أدوات السلطة على الأزهر وقيدتها بمتطلبات كثيرة تصاعدت على خلفية تصاعد العنف من قبل الجماعات الإسلامية في الثمانينيات من القرن الماضي.

بالنسبة لعالم دين مثل الشيخ الطيب، وصل إلى الذروة مع مشيخة الأزهر، لا شيء أمامه يمكن أن يدفعه الطمع فيه للتبذل والتهافت من أجل تحقيقه

كما لم يكن مقبولاً بعد الثورة الإسلامية في إيران، أن توجد نسخة مصرية من حوزة قم في قلب القاهرة، خاصة مع وجود شخصيات مثل الشيخ عمر عبد
الرحمن ترتدي الزي الأزهري وتغذي التشكل الفكري للجماعة الإسلامية، وبذلك، بقيت السلطة على وضع الأزهر في متناول يدها وتحت سيطرتها الناعمة، فمنصب مشيخة الأزهر يجب أن يبقى قراراً سياسياً، والشيخ سيحمل مجموعة من ملاحظات أو توجهات السلطة ليعكسها على المؤسسة بأكملها، مع وجود هامش للحرية يعطي لكل شيخ شخصيته المستقلة. في وسط هذه المعادلات ظهرت شخصية الشيخ أحمد الطيب، الذي لم يكن قد أكمل عامه الأول في قيادة الأزهر مع انطلاق ثورة يناير 2011، وبقيت تصريحاته تحمل تحفظاً كبيراً، ولم يكن ثمة ما يوحي بأن الشيخ سيدخل في لعبة التوتر المفتوح التي ستشهدها مصر بعد الثورة، وفي الخطاب الشهير لعزل الرئيس محمد مرسي، كان أحمد الطيب أحد الموجودين خلف وزير الدفاع، آنذاك عبد الفتاح السيسي، مع بابا الأقباط ومحمد البرادعي وقادة الجيش وبعض ممثلي القوى السياسية. الخلاف الأول أتى بعد فض اعتصام رابعة، الذي راح ضحيته المئات من المعتصمين، وخطاب شيخ الأزهر الذي تبرأ من الأحداث والتكلفة البشرية الباهظة التي رافقتها، ولكن ذلك كان يمكن تجاوزه مع الوقت، فالشيخ يلجأ إلى الحذر والمواربة والصمت الذي يغلف ملامح وجهه الصريحة، التي تكاد تنطق بمكنون نفسه من غير أن تدينه بموقف صريح ومباشر، وبالنسبة لعالم دين مثله، فإنه وصل إلى الذروة مع مشيخة الأزهر، ولا شيء أمامه يمكن أن يدفعه الطمع فيه للتبذل والتهافت من أجل تحقيقه. حدثت الجفوة شيئاً فشيئاً حتى أصبحت غير قابلة للستر أو التورية، فالرئيس السيسي أطلق العديد من التصريحات حول تجديد الخطاب الديني، كانت
تحمل موقفين، الأول، سياسي يسعى إلى الاندماج في محاصرة فكر الإسلام السياسي، وإضعاف فرصه للعودة من خلال الخطاب الديني، والثاني، شخصي يتمثل في رغبة السيسي المتوطنة في تحويل المصريين إلى نسخ متشابهة من الشخصية المثالية التي شكلها في تصوراته حول المواطن الصالح والمفيد، فأخذ مرة يتحدث عن طريقة تفكير المصريين، وأخرى عن قوام المصريين والوزن الزائد، وكان طبيعياً أن يتدخل في شؤون أسرية مثل الزواج والطلاق، الأمر الذي يتقاطع مع نصوص وتفسيرات دينية مستقرة، ومنها ما تمت دراسته وتمحيصه عبر أجيال في الأزهر، ولا يمكن أن يصبح انتزاع اعتراف من شيخه ليتركه رهناً بقرار سياسي يحمل تصوراً شخصياً، وحول قضية الطلاق الشفهي الذي يقره
الأزهر، ويرغب الرئيس في تجريده من قيمته القانونية، أتى عتب السيسي المبطن: أتعبتني يا فضيلة الإمام.
من المعروف أن الرئيس السيسي لا يحب من يتعبونه بطرح وجهات نظر مختلفة عن تصوراته الخاصة بالدولة والمجتمع، ويباهي بصورة دائمة بفهمه لما يغيب عن أذهان العامة وحتى المختصين، ولكنه لا يستطيع أن يمارس استراتيجية التجاهل الموضوعي نفسها مع شيخ الأزهر، الذي يقف على أرضية تراث يمتد لأكثر من ألف عام، واحترام محلي ودولي لشخصه وسمعته، ليستبدل ذلك بتجاهل ذي سمة شخصية وذاتية للشيخ في بعض المناسبات، وتلويحاً مبطناً بسلطته التي تخوله لفرض ما يراه من خلال القانون. توسعت الخلافات، ومنها ما أصبح سياسياً، فشيخ الأزهر رفض إقرار قانون دار الإفتاء المصرية التي حاولت الدولة في مصر فرضها لانتزاع اختصاصات الأزهر، محتجاً بعواره الدستوري لأن الدستور المصري ينص على اعتبار الأزهر المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية في المادة ذاتها التي يحصن فيها شيخ الأزهر من العزل، هذه إحدى النقاط الحاضرة في ذهن السيسي والطيب على السواء، ووضع الشيخ بوصفه من أدوات القوة الناعمة لمصر، والكاريزما الشخصية، أمور كلها تدخل لتعقد الموقف بين الرجلين، وبالطريقة التي تتعب عملياً شيخ الأزهر أكثر من الرئيس الذي يمتلك حرية واسعة في الكلام والتوسع في الموضوعات ما ليس للشيخ ولو كسر عشري منه. تقف مؤسسة الأزهر على خبرة قرون من تحولات الزمن واضطراب الظروف، ويرى الشيخ أحمد الطيب أن ذلك ما يمكنه من النأي بالأزهر عن توظيفه في الهندسة الاجتماعية في مصر، واستبقائه على مسافة معقولة من اللعبة السياسية المحلية والإقليمية، في صورة تظهر تمدد أزمة الدولة في مصر، دولة ما بعد 1952، في العيون الشاردة والقلقة لرجال من عينة البابا شنودة وأحمد الطيب، تحمل انتظاراً مديداً لعقلنة رؤى الهوية والشخصية الوطنية تجاه فضاء أوسع من فهم الماضي والمستقبل معاً.
كاتب أردني

التعليقات (0)