د. سعيد الشهابي يكتب: «العالم الحر»: تركيع الشعوب بسلب أمنها

profile
د. سعيد الشهابي ناشط سياسي وصحفي ومعلق بحريني
  • clock 29 أغسطس 2022, 1:31:29 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

من أهم ما يهدد سعادة الإنسان شعوره بأمرين: الخوف والجوع، أي انعدام الأمن الحياتي والأمن الغذائي، حسب المصطلحات الدارجة.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذين الجانبين لدى النفس الإنسانية واصفا النعمة الإلهية التي منحها قريشا: «الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف». واعتبر أن من أهم التحديات التي تواجه البشر شعورهم بالخوف والجوع، واعتبر ذلك عقابا لهم: «ولنبلونكم بشيء من الجوع والخوف، وقال: «فأذاقهم لباس الجوع والخوف». وهناك آيات عديدة تشير إلى هذين الجانبين من الحياة البشرية. وقد أدرك المجتمع البشري هذه الأهمية منذ القدم، وأصبح من شروط استقرار الأمم تمتعها بالأمن.
ومع تطور مفهوم الدولة أصبح الأمن شرطا أساسا لبقائها. وبمرور الوقت وتشعب مصادر تهديدها ومواطنيها توسعت دوائر الأمن، وتحولت في الدولة الحديثة إلى ما يسمى «الأجهزة الأمنية» التي تحظى عادة بنسبة كبيرة من موازنات الدول. وتتعدد طرق تفاعل الأفراد مع التهديدات الأمنية. فهناك من يعتبر أمنه مرتبطا بمدى تحقق طموحاته الشخصية وعلى صعيد المجتمع والدولة. فلا يخشى من «زوار الليل» الذين يسلبون الناس أمنهم لأسباب سياسية، وربما لا يخشى البعض من حالة الجوع والعوز لأنه أوكل أمره إلى خالقه فنام مطمئن البال، لا يخشى إلا وساوس الشيطان.
أيا كان الأمر يستمر العالم في البحث عن توفير الأمن على وجه هذا الكوكب، تارة بالتوافق ضمن معاهدات دولية وأخرى ضمن ما يسمى «سياسة الردع» بتكديس السلاح النووي بعنوان «الردع». وهناك حقائق ترتبط بمفهوم الأمن منها ما يلي: أولها أن الأمن لا يمكن تجزئته، بل يجب أن يكون متكاملا لكي يشعر الإنسان به فعلا، وهذا ما يسعى الأفراد لتحقيقه وتعمل الدول المتقدمة للبحث عنه دائما. ثانيها: أن الأمن لا يتحقق إلا إذا شمل الجميع، فلا يستطيع الفرد أن يشعر بالأمن إذا كان جاره ينتابه الخوف (سواء السياسي ام المعيشي). فلا يمكن فصل أمن الفرد عن أمن المجتمع. ثالثها: أن مستويات الشعور بالأمن في بعض جوانبه ترتبط بعمق الإيمان «الذين تطمئن نفوسهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب». ويعتقد أتباع الأديان أن الوحي الإلهي الذي قام الدين على أساسه هو المصدر الأقوى لتوفير الأمن، ويستدلون على ذلك بما ينجم عن الفراغ الروحي من شعور بالضياع وعدم الأمن والاستقرار. رابعها: أن الأمن شعور داخلي نفسي يخالج الفرد نفسه، وقد لا يستطيع أحد تخفيفه أو تعويضه. خامسها: أن الأساليب الحديثة لتحقيق الأمن ما تزال قاصرة عن تحقيق ذلك بشكل كامل، لذلك يعاني المجتمع البشري المعاصر من حالة لغط وفوضى وضياع إزاء قضايا الأمن الفردي والجماعي. وتسود شعوب العالم هذه الأيام حالة من غياب الأمن بسبب ارتفاع أسعار المعيشة وما يمثله من ضغط على العائلات التي أصبحت تخشى من الجوع بشكل غير مسبوق. كما يعاني «العالم الحر» خصوصا في أوروبا من انعدام الشعور بالأمن الغذائي والبيئي المستقبلي خصوصا بعد الجفاف الذي عم أوروبا مؤخرا والذي يعتبر الأسوأ منذ نصف قرن. هذا «العالم الحر» هو الذي استخدم الأمن سلاحا لتركيع الشعوب. من الذي فرض حصارا جائرا على العراق اثني عشر عاما؟ من الذي يفرض حصارا على غزة منذ 15 عاما وعلى إيران أكثر من 40 عاما؟
إن قضايا الأمن تمثل العنوان الأوسع لجهود الدول من أجل التوصل إلى صيغ عملية تتيح الوصول إلى حالة من الأمن المشترك. وهذا يتطلب تبريد بؤر التوتر السياسي والاقتصادي بشكل خاص.
فحرب أوكرانيا مثلا ساهمت في إضعاف شعور الأوروبيين بالأمن الحقيقي، وأصبح شبح الحرب يعيد للذاكرة معاناة القارة البيضاء من الحربين الكبريين. ولكن ماذا عن الشعوب؟ فهل يكفي توفر الغذاء لكي تشعر بالأمن الكامل؟ وماذا عن القلق السياسي والاضطراب الناجم عنه؟ من هنا يتطلب الأمن السياسي ترسخ العلاقات بين الدول لتزول مشاعر الخوف من الخلاف السياسي والأمني والعسكري. وقد دعا القرآن الكريم لترويج ثقافة «التعارف» بين الناس كطريق للحفاظ على الأمن: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم».

يستمر العالم في البحث عن توفير الأمن على وجه هذا الكوكب، تارة بالتوافق ضمن معاهدات دولية وأخرى ضمن ما يسمى «سياسة الردع» بتكديس السلاح النووي

حالة المساواة بين البشر والحق المتساوي في الحياة يمكن اعتباره ركيزة أساسية لسيادة الأمن وتقلص مساحات الاختلاف المؤدية للخلاف والاحتراب. وتنجم المشكلة حين يساور أحدا شعورٌ بالتعالي أو التميز، فتختلف لديه قيمة حياة البشر، فتصبح قيمة القريب أكبر من البعيد. وهذا واضح في سياسات الكثير من الدول خصوصا التي تمتلك قوة سياسية واقتصادية وعسكرية تفوق ما لدى الآخرين. هنا لا مكان لقانون المساواة في العقوبة «السن بالسن، والعين بالعين» بل يتحول الأمر إلى روح انتقام شيطانية تأتي على الأخضر واليابس.
من بين الاعتراضات التي طرحتها حكومة الاحتلال على الاتفاق النووي المزمع بين إيران وأمريكا أنه «سيمنح إيران أموالا ستستخدمها لزعزعة استقرار المنطقة». هنا تظهر «إسرائيل» نفسها أنها راعية الأمن الاقليمي في الشرق الأوسط، وتقصد بذلك أن أمنها هو الأساس، وكل ما عداه فهو نسبي. ومن بين تبريرات اعتقال النشطاء السياسيين في الكثير من البلدان أنهم «يهددون الأمن» في البلدان التي يسعون لإحداث التغيير فيها. وقيل كذلك أن من اسباب تهديد الأمن الإقليمي شحة المياه وتسابق الدول المتجاورة للاستحواذ عليه. ويقال أيضا إن المجموعات الإسلامية مصدر تهديد للأمن. فما هو هذا الأمن الذي تؤثر عليه هذه العوامل وغيرها؟ وهناك تساؤلات عن مدى ارتباط أمن الأفراد بأمن المجتمع.
وفي عدد من البلدان يطلق على بعض فروع أجهزة الاستخبارات اسم «أمن الدولة». فأين هو الخط الفاصل بين أمن الفرد وأمن النظام السياسي؟ وهل أمن النظام منفصل تماما عن أمن الأفراد المحكومين بذلك النظام؟ وماذا عن أمن العائلات التي تشعر بالتهديد دائما في ظل الاستبداد؟ وماذا عن المناخ الذي أصبحت تجلياته السلبية تنعكس سلبا على الأمن الحياتي للبشر؟ وهل الأمن محصور بتأمين حاجات الأفراد من المواد الاستهلاكية الضرورية لحياته أم أن الأمن السياسي أحد وجوه هذا المصطلح الفضفاض؟
من المشاكل التي تواجه المجتمع البشري في مجال الأمن أمور عديدة: أولها أن الأمن عنوان فضفاض، كما هو «الإرهاب» و«السيادة» وسواهما من المصطلحات التي يفسرها كل طرف بلحاظ مصالحه. ثانيها: غياب آليات العمل الدولي المشترك في أغلب القضايا، فحتى لو هدد حاكم أمن شعبه أو بضع أفراده فليس هناك من يردعه. ثالثها: أن العالم التفت إلى مسألة الأمن وأقر بعض المنظمات المعنية بذلك، ولكن أغلبها يخضع لإرادة الحكومات، ومجلس الأمن الدولي مثال على ذلك. فالأمن هنا عنوان مائع يخوض فيه أعضاء المجلس الخمسة الدائمين والعشرة غير الدائمين، وتدخل مصالح كل من هذه الدول في الحسابات السياسية لمجلس الأمن وتؤثر على قراراته. رابعها: أن الربط بين الأمن المادي والأمن المعنوي والنفسي ضرورة، فالإنسان له جانبان، مادي ومعنوي، وأمنه لن يتحقق إلا بتلبية متطلبات الجانبين. خامسا: أن من الضروري طرح ملف الأمن كعنوان واسع لأكبر تحد يواجه الإنسانية مجتمعة والإنسان مفردا. إذ أن الواضح أن هذا الإنسان مستمر في دفع فواتير خلافات «الكبار» بما في ذلك أمنه الشخصي الذي يتضاعف بفقده حقوقه التي أقرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
لقد تحول موضوع أمن الشرق الأوسط إلى عنوان عام هو الآخر، يتم التلاعب فيه من قبل الفرقاء.
ومن كبريات المصائب أن يكون للكيان الإسرائيلي دور في صياغة هذا الأمن ومستلزماته، وهو الذي سلب أمن شعب كامل ثلاثة أرباع القرن، وما يزال يفعل. فهل يستطيع سياسي أو إعلامي الادعاء بأن الشعب الفلسطيني يتمتع بالأمن؟ إن سلب الأوطان من أكبر ما يهدد الأمن على كافة الصعدان: الفردية والمجتمعية والإقليمية وربما الدولية.
هذا ما حدث لأهل فلسطين، ومسلمي بورما ويهدد مسلمي الهند. لكن الافراد في البلدان الأخرى يعانون كذلك من انعدام الأمن ويعيشون قلقين على حياتهم ووجودهم وحقوقهم ومستقبلهم بشكل دائم خصوصا مع غياب السيادة الوطنية ووجود القواعد الأجنبية والخبراء الأجانب.

كاتب بحريني


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)