إبراهيم نوار يكتب: السعودية ودبلوماسية الجسور المفتوحة بين العرب والعالم

profile
  • clock 28 سبتمبر 2022, 4:41:20 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

مبادرة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لإطلاق سراح 10 مقاتلين أجانب من أسرى الحرب الأوكرانية لدى روسيا، منهم خمسة ينتمون إلى بريطانيا، واثنين للولايات المتحدة، وواحد لكل من المغرب والسويد وكرواتيا، تشير إلى تحولات إيجابية في الدور السعودي المستقل في العلاقات الإقليمية، والعلاقات بين العرب والعالم. ولعل هذه الخطوة تكون فاتحة طريق مثمر لما يمكن أن نطلق عليه «دبلوماسية الجسور المفتوحة» بين العرب والعالم. هذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها السعودية بدور من هذا النوع في العلاقات الدولية، كما أن المبادرة جاءت في سياق مخالف لتصاعد لهجة التهديد النووي، الذي ينذر بتحول الحرب الأوكرانية إلى كارثة تهدد البشرية جمعاء، فقدمت الدليل على أن «دبلوماسية الجسور المفتوحة» يمكن أن تكون طريقا للتغلب على التحديات التي تعترض جهود تهدئة الصراعات وتَجَنُب الحروب. كما إنها تشير إلى انتقال في توجهات الدبلوماسية السعودية، وخروجها عن مسارها التقليدي، الذي كان يتواصل مع العالم عبر البوابة الأمريكية.

خطورة الاستقطاب العالمي

تصطدم جسور الدبلوماسية في الشرق الأوسط تاريخيا بظروف الانقسام العالمي وصراعات الأقطاب، خصوصا في فترات انتقال محاور القوة في العالم. فقد كانت المنطقة من أهم مسارح العمليات العسكرية والمناورات الدبلوماسية التي ترافقت مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وما تبعها من ظهور أنظمة حكم قومية في تركيا ومستعمراتها السابقة. كما كان تقسيم النفوذ في المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الثانية علامة على نهاية مرحلة سيطرة القوى البحرية التقليدية، وأهمها بريطانيا وفرنسا، وتغلب نفوذ الولايات المتحدة كقوة بحرية سائدة، لكن صعود النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، اصطدم بتمدد نفوذ الاتحاد السوفييتي (روسيا)، فنتج عن ذلك انقسام المنطقة إلى معسكرين، أحدهما «تقدمي» تقوده مصر، موال للاتحاد السوفييتي، والثاني «رجعي» تقوده السعودية، موال للولايات المتحدة، وهو ما خلق صداما سياسيا إقليميا حادا، وصل إلى حد اشتعال حرب بالوكالة في اليمن! وجعل علاقات المنطقة مع العالم تسير على جسرين منفصلين، واحد منهما يؤدي إلى موسكو، والثاني يؤدي إلى واشنطن. الآن، في عصر الاضطراب والتبدلات في موازين القوى، والخلل في توازن القوى العالمي، ومع اشتداد حدة الصراع الإقليمي بين طهران وتل أبيب، واشتداد حدة الصراع الدولي بين واشنطن من ناحية، وكل من موسكو وبكين من الناحية الأخرى، فإن المنطقة العربية تبدو في حاجة شديدة إلى قوة إقليمية، تضع حدا للاستقطاب داخلها، وتحفظ توازن علاقاتها بالعالم الخارجي، بدلا من التمزق بين محورين. فهل تجد المنطقة في المملكة السعودية ضالتها؟ وتنجح السعودية في إبقاء الجسور مفتوحة بين المنطقة والعالم؟ الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي قطع خطوة كبيرة على طريق «دبلوماسية الجسور المفتوحة». التحدي الذي يواجهه الآن هو المحافظة على استمرار هذه الدبلوماسية.

سلاح النفط وأمن التسلح

طالما أن النفط ما يزال حتى الآن أهم مصادر الطاقة في العالم، فإنه سيظل واحدا من الأسلحة التي تستخدمها السياسة لتحقيق أهدافها. الفصل الأخير الذي نعيشه الآن هو العقوبات الأمريكية على روسيا، وقرار الاتحاد الأوروبي حظر شراء النفط الروسي، الذي من المفترض أن يبدأ سريانه اعتبارا من ديسمبر المقبل. وقد اعتقدت الولايات المتحدة وأوروبا أنها بفرض الحظر النفطي تعاقب روسيا، لكن ما حدث بالفعل هو أن روسيا حولت تجارتها إلى الشرق، بينما تتعرض أوروبا لأزمة حادة في الإمدادات. وعندما أرادت الولايات المتحدة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فإن الرئيس الأمريكي بايدن زار السعودية في منتصف يوليو الماضي، وحاول إقناع قيادتها بزيادة إنتاج المملكة ودول أوبك من النفط الخام، لكنه فشل، حيث رفضت السعودية تكرار سيناريو 2014 الذي وضعها في مواجهة خاسرة مع روسيا. الآن تلتقي مصالح السعودية النفطية مع مصالح روسيا، وتسيران معا يدا بيد، للمحافظة على توازن السوق. هذا اللقاء في المصالح هو أحد أهم محركات السياسة الخارجية السعودية في الوقت الحاضر. أما في شأن أمن التسلح، فما تزال السعودية حتى الآن في حاجة للولايات المتحدة، لكن هذا الاحتياج يمكن للرياض تخفيف حدته من خلال قناتين، كل منهما تمر عبر موسكو، القناة الأولى تتعلق بتخفيف حدة التوتر مع إيران، ووضع أساس متين للأمن الإقليمي في الخليج. هذه القناة تمر حاليا عبر العاصمة العمانية مسقط، كما تستطيع موسكو وبكين أن تضيف إليها قوة كبيرة، إذا أرادات السعودية. وهنا فإن وجود اتفاق بين دول المنطقة على قواعد الأمن الإقليمي، من شأنه أن يخفف حدة التوتر، وأن يقلل الحاجة لسباق التسلح. أما القناة الثانية فهي تنويع مصادر السلاح، وهنا تأتي أهمية روسيا ثاني أكبر مصدر للسلاح في العالم، وقد أبدت السعودية فعلا اهتماما بشراء منظومة الدفاع الجوي الروسية إس 400. لكن الولايات المتحدة ما تزال هي المورد الرئيسي للسلاح، كما أن السعودية ما تزال هي أكبر سوق في العالم للأسلحة الأمريكية، وقد اشترت السعودية حوالي 23% من صادرات السلاح الكلية للولايات المتحدة خلال الفترة بين عامي 2017 و2021، طبقا لمعهد «سيبري» لدراسات السلام في استوكهولم. كما أقرت الإدارة الأمريكية في العام الحالي مبيعات سلاح جديدة إلى السعودية، من أهمها صفقة صواريخ باتريوت بقيمة 3 مليارات دولار، تم الاتفاق عليها خلال زيارة بايدن للسعودية في شهر يوليو، ولذلك فإن هامش المناورة، وفائض القوة لدى السعودية يعزز قدرتها على ممارسة «دبلوماسية الجسور المفتوحة» من دون قطيعة مع الولايات المتحدة، ومن دون تكلفة إضافية تقريبا.

مبادرة الأمير محمد بن سلمان خطوة إيجابية، ستجعل السعودية، صاحبة قرار في شؤون المنطقة، وأن تصبح لها «قوة دبلوماسية» على المستويين الدولي والإقليمي

المهارة الدبلوماسية

المحافظة على هامش واسع للمناورة، وكسب ثقة الأطراف المختلفة، والمحافظة دائما على إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة، هي ثلاثة مقومات مهمة للدبلوماسية الماهرة. وفي هذا السياق فإن سلطنة عمان قدمت للمنطقة والعالم أدلة بالغة الأهمية على فاعلية دبلوماسية تخفيف التوتر وصنع السلام في العلاقات الإقليمية، وما تزال تلعب دورا مهما من خلال «دبلوماسية الجسور المفتوحة» في محاولات تخفيف التوتر بين إيران والدول العربية، وحل «العُقَد» التي تهدد جهود بناء السلام الإقليمي. وفي هذا السياق فإن الدبلوماسية السعودية الجديدة تثبت أن الرياض تملك دبلوماسية ماهرة، كانت كافية للحصول على ثقة الطرفين، روسيا وأوكرانيا. وقد حصلت الرياض بالفعل على تقدير من واشنطن ولندن واستوكهولم وكييف وموسكو للدور الذي قامت به في صفقة الإفراج عن أسرى الحرب. وقال وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، إن المبادرة السعودية كان يتم طبخها على نار هادئة، ومن دون إعلان، منذ زيارة بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني السابق للرياض في شهر إبريل الماضي. وبعدها أثار بن سلمان الموضوع مع الرئيس بوتين، وحافظ على التواصل المستمر معه حتى إتمام الصفقة بنجاح، وتعود مهارة الدبلوماسية السعودية هنا إلى المحافظة على «سرية» الاتصالات حتى إتمام الصفقة، وإلى مكانتها كوسيط «موثوق فيه»، وإلى إصرارها على تنفيذ الصفقة، باعتبارها «بادرة إنسانية»، بعيدا عن حسابات السياسة، حسب تعبير وزير الخارجية السعودي.

إعادة صياغة العلاقات بين الرياض وواشنطن

كانت العلاقات السعودية الأمريكية عبارة عن طريق باتجاه واحد فقط، لكن المبادرة الأخيرة، إضافة إلى رفض السعودية الضغوط الأمريكية لزيادة إنتاج النفط، يشير إلى أن العلاقة تسير الآن في طريق ذي اتجاهين، يحرص فيه كل طرف على عدم الصدام مع الآخر، مع استمرار التعاون بأشكاله المختلفة، الأمر الذي يعزز «التعددية» في النظامين العالمي والإقليمي. ويؤدي تعدد الأقطاب على المستوى الإقليمي إلى فتح قنوات لتسوية الصراعات الإقليمية بمساعدة القوى العالمية الرئيسية، والحد من تداعيات زيادة حدة الاستقطاب في المنطقة، بين كل من طهران وتل أبيب. ويترتب على ذلك واجب الاستمرار في إجراءات بناء الثقة إقليميا، من دون تحيز، وعلى أساس قواعد سياسية واضحة، مثل حل الدولتين للقضية الفلسطينية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وتوقيع اتفاقية أمن جماعي إقليمي، تضع الأساس لإخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل كافة، ونزع عوامل التوتر، وضمان حل النزاعات داخل إطار سلمي، بعيدا عن التهديدات والحروب. مبادرة الأمير محمد بن سلمان هي في التحليل النهائي خطوة إيجابية، وإذا استمرت فإنها تجعل من السعودية، المملكة النفطية، وعضو مجموعة العشرين العالمية، قوة دبلوماسية رئيسية في الشرق الأوسط، صاحبة قرار، وصوت مسموع مستقل، في شؤون المنطقة، وأن تصبح لها «قوة دبلوماسية» على المستويين الدولي والإقليمي تكافئ «القوة النفطية» وتزيد.
كاتب مصري

التعليقات (0)