يحيى الكبيسي يكتب: العراق:عن محنة القضاء ثانية

profile
  • clock 26 أغسطس 2022, 3:07:03 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

كتبنا فيما سبق عن محنة القضاء في العراق، ليس فيما يتعلق بالقضايا ذات الجنبة السياسية وحسب، بل بالقضاء الجنائي، وقلنا إنه يمكن للقضاء أن يكون أداة فاعلة وجوهرية في بناء الدولة والمجتمع، ويكون في الوقت نفسه، عاملا من عوامل تقويضهما، ومراجعة سلوك القضاء العراقي يكشف، بما لا يدع مجالا للشك، أنه تحول إلى عامل رئيسي في مسار هذا التقويض!
في تاريخ الدولة العراقية (1921 ـ 2003)، لم يعرف القضاء العراقي الاستقلالية عن السلطة التنفيذية (بمعنى أن لا يخضع لسلطة سوى سلطة القانون)، ويعود الفضل للاحتلال الأمريكي حصرا، في موضوع استقلاله عن السلطة التنفيذية/ وزارة العدل، من خلال أمر سلطة الائتلاف المؤقتة رقم 35 الذي صدر بعد الاحتلال مباشرة، والذي أعاد تشكيل مجلس القضاء الأعلى ، وكذلك من خلال قانون إدارة الدولة المؤقت الصادر في آذار 2004 والذي تبنى مبدأ الفصل بين السلطات. لكن الوقائع اللاحقة أثبتت أن الطبقة السياسية العراقية، والقضاء نفسه، ليسوا مؤهلين حتى اللحظة لهذا الأمر!
فقد فشل القضاء العراقي، في استثمار هذه الاستقلالية، وبقي “خاضعا” لسلطة الفاعلين السياسيين الأقوى، و”محكوما” بعلاقات القوة المتغيرة بعد العام 2003، ليس فقط بسبب هيمنة شخص واحد (القاضي مدحت المحمود) على كل من مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية العليا التي تشكلت في العام 2005، بل لأسباب أخرى تتعلق بالبنية الذهنية للقضاة أنفسهم، والذين لم يكونوا قادرين على وعي فكرة الاستقلالية من الأصل، وبسبب الخوف، أيضا، من العزل بموجب قانون اجتثاث البعث/ قانون المساءلة والعدالة (شغل القاضي مدحت المحمود نفسه موقع رئيس الدارة القانونية في مجلس قيادة الثورة لسنوات طويلة، وتم شموله بقانون المساءلة والعدالة في العام 2013 قبل أن يتم تسوية الأمر سياسيا)، وأخيرا بسبب الحوافز المادية الكبيرة الممنوحة للقضاة، كل هذا جعلهم عاجزين تماما عن الوقوف بوجه تدخلات وإملاءات الفاعلين السياسيين ذوي السطوة والنفوذ!

كل هذا ساهم في تحول القضاء العراقي بشقيه؛ المحكمة الاتحادية العليا ومجلس القضاء الاعلى إلى “تابع” للفاعل السياسي الأقوى، وإلى كيان “مطيع” لرغبات هؤلاء الفاعلين ونزواتهم ما بين عامي 2003 و 2017! ولعل القرارات الأبرز في هذا المجال قرار المحكمة الاتحادية فيما يتعلق بتفسير المادة 76 من الدستور، وقرارها المتعلق بحرمان السلطة التشريعية نفسها من التشريع، وقرارها الخاص بالهيئات المستقلة وإخضاعها للسلطة التنفيذية، وقرارها الخاص بمفهوم الاستقلالية الذي كان فضيحة حقيقية!
كما ان مراجعة قرارات الهيئة القضائية للانتخابات في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات عام 2010 ( التي كان يرأسها رئيس مجلس القضاء الحالي نفسه) تكشف عن النموذج الأكثر فجاجة فيما تعلق بحجم تسييس القضاء العراقي ومدى تحكم الفاعلين السياسيين فيه! هكذا تم اقصاء مرشحين بقرارات “مجانية” وبعضها ينتهك أحكام الدستور صراحة، كما تم قبول ترشح آخرين في مخالفة صريحة للنصوص الدستورية والقانونية! على سبيل المثال لا الحصر عدت هذه المحكمة أن مجرد “الاتهام” يقدح في حسن السيرة والسلوك، وبالتالي منعت كثيرين من الترشح، في مخالفة للنص الدستوري الصريح الذي يقرر أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، في الوقت نفسه قبلت ترشيح “متهمين” آخرين بالقضايا نفسها! أو إعادة مرشح تحالف دولة القانون الذي يرأسه رئيس مجلس الوزراء حينها نوري المالكي لشموله بإجراءات المساءلة والعدالة بحجة أن المرشح المذكور قد اُستثنيَ من هذه الإجراءات في مخالفة لقانون هيئة المساءلة والعدالة (المادة 12) التي قصرت ذلك على حالة العودة إلى الوظيفة حصرا، وبشروط محددة، لكن الهيئة القضائية للانتخابات ضربت بالدستور والقانون عرض الحائط إرضاء للمالكي!
عام 2017 شُرع قانون مجلس القضاء الأعلى، وفيه فصلت المحكمة الاتحادية العليا عن مجلس القضاء الأعلى، ومراجعة هذا القانون تكشف بوضوح عن اختصاصات وصلاحيات محددة منحت لمجلس القضاء الأعلى، ورئيسه، وجميعها يتعلق بإدارة الشؤون القضائية حصرا، ولكن التواطؤ السياسي، والبنية الزبائنية الحاكمة في الدولة العراقية، وطبيعة التحالفات السياسية، أتاحت لمجلس القضاء الأعلى أن يمارس دورا سياسيا واضحا، حولته إلى فاعل سياسي، وتكرس الأمر بعد صدور قانون تعديل قانون المحكمة الاتحادية عام 2021، الذي شكل فضيحة حقيقية؛ فقد صدر هذا القانون بصفقة سياسية انتهكت قرارا باتا وملزما للسلطات كافة، أصدرته المحكمة الاتحادية العليا بعدم اختصاص مجلس القضاء الأعلى بترشيح قضاة المحكمة الاتحادية، ولكن رئيس الجمهورية بالشراكة مع مجلس النواب، خالفوا قرار المحكمة الاتحادية العليا، وشرعوا قانونا قدمه رئيس الجمهورية أعطى من خلاله مجلس القضاء الأعلى صلاحية ترشيح قضاة المحكمة الاتحادية! وقد ساهم هذا القانون/الفضيحة، في هيمنة رئيس مجلس القضاء الأعلى على المحكمة الاتحادية العليا التي تحولت بعد ذلك الى “سكرتارية” تابعة له لا أكثر!
في سياق الصراع الحالي بين الإطار التنسيقي والتيار الصدري، أصبح واضحا للجميع أن القضاء العراقي، لم يعد طرفا سياسيا وحسب، بل أصبح حليفا سياسيا يستخدم سلطاته “المطلقة” لتغليب كفة طرف على آخر، وهو ما أفقد القضاء ككل، والمحكمة الاتحادية بوجه خاص، القدرة على أن تكون حكما!
تحدث رئيس مجلس القضاء الأعلى، يوم الأثنين 22 آب/ أغسطس، عن “أهمية اعتماد السياقات الدستورية والقانون لحلحلة الازمة السياسية الحالية”، دون أن تكون له صفة تخوله لهكذا تصريح، فمهام رئيس مجلس القضاء الأعلى كما حددها القانون تنحصر في إدارة الشؤون القضائية فضلا عن رئاسته لمحكمة التمييز الاتحادية! وهذا التصريح كان إعلانا صريحا بتبنيه موقف أحد طرفي الصراع، وهو ما دفع التيار الصدري إلى التظاهر أمام مجلس القضاء الأعلى داخل المنطقة الخضراء!
ردة فعل القضاء كشفت الإشكاليات الجوهرية والحقيقية التي يعاني منها القضاء العراقي، بداية من الاجتماع المشترك الذي ضم مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية معا، والذي فضح حقيقة طبيعة العلاقة التبعية بينهما، ثم الإقرار بتعطيل عمل القضاء والمحاكم الاجتماع وهو قرار غير قانوني لأن الجهتين لا تمتلكان صلاحية إصدار هذا القرار، مرورا بقرارات إلقاء القبض الارتجالية والمجانية التي صدرت ضد بعض أعضاء التيار الصدري، والتي فضحت منهجية إصدار أوامر إلقاء القبض، بعيدا عن أي إطار قانوني وهو القضية التي كنا دائما نتحدث عنها. ثم إصدار قرارات حجز أموالهم المنقولة وغير المنقولة في مخالفة لقانون أصول المحاكمات الجزائية التي لا تتيح إصدار هكذا أمر إلا في حالة “تعذر تنفيذه”!
المفارقة الغريبة هنا أن هذه القرارات قد صدرت في ظل تعليق عمل مجلس القضاء الأعلى والمحاكم التابعة له والمحكمة الاتحادية العليا!
لعل الفضيلة الكبرى للأزمة الحالية أنها رفعت الحصانة الوهمية عن القضاء العراقي، تلك الحصانة التي أسبغتها عليه البنية الزبائنية وسياسة التخادم والتواطؤ الجماعي التي تحكم العراق، وجعلته لأول مرة، بفضل الصراع السياسي وليس بفضل وعي الطبقة السياسية بأهمية استقلال القضاء، جعلته يخضع للنقد، الأمر الذي كان مستحيلا قبل ذلك بسبب تعريض كل من ينتقده للتنكيل عبر مذكرات إلقاء قبض انتقامية ومجانية. وبغض النظر عن سياق الصراع القائم ومآلاته، على الجميع ان يستمر في مراقبة القضاء، وفضح تسييسه، وصولا الى إصلاحه وإعادة هيكلته، فالقضاء هو أحد الضمانات الأساسية لمنع تقويض الدولة!


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)