ياسين أقطاي يكتب: ما خفي أعظم.. حرب اليونان بالوكالة وجيش الظل والمهاجرين

profile
د.ياسين أقطاي أكاديمي ومفكر سياسي
  • clock 6 نوفمبر 2022, 5:55:11 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

بين الحين والآخر تطالعنا وسائل الإعلام بالتقارير والأخبار التي تكشف عن الوجه الآخر لليونان، ذلك الوجه المعني بالانتهاك الصارخ للاتفاقيات الدولية التي كانت اليونان نفسها طرفا فيها لفترة طويلة، حيث تقوم القوات اليونانية بصد المهاجرين الذين وصلوا إلى شواطئها ونزلوا على أرضها، وتعاملهم معاملة غير إنسانية، وترسلهم في رحلة موت محقق في مياه البحر الأبيض المتوسط على متن قوارب أشبه بتوابيت الموتى، بدعوى أنها تعيدهم إلى تركيا.

السؤال الأصيل المشروع هو: هل تلك المعاملة غير الإنسانية التي تظهرها اليونان تجاه المهاجرين هي سياسة اليونان الخاصة أم أن اليونان باعتبارها واقعة على حدود أوربا القارة العجوز، تعمل نيابة عن القارة كلها. نظرا لأن عددا غير كثير من المهاجرين الذين يصلون إلى اليونان يبقون فيها، لكن الغالبية العظمى منهم يتخذون من اليونان محطة للوصول إلى دول أوربية أخرى.

هذا فضلا عن أن اليونان التي تئن تحت أعباء اقتصادها السيئ ليست وجهة جاذبة للمهاجرين. وليس لديها ما يمكن أن تقدمه للمهاجرين؛ لأنها بالكاد تسيِّر أمور مواطنيها ولا يمكنها الوقوف على قدميها دون دعم الاتحاد الأوربي. وبناء على ذلك فليس هناك أي خطر حقيقي يمكن أن يحدق باليونان يدفعها للقيام بكل تلك الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ومخالفتها للاتفاقيات التي وقعت عليها من قبل؛ لذلك فإنه لا شك في ارتكاب اليونان لهذه الانتهاكات بالوكالة عن الدول الأوربية كلها.

واسمعي يا جارة

إن انتقادات الرئيس رجب طيب أردوغان التي وجهها لليونان فيما يتعلق بهذه الانتهاكات في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام كان في الواقع كلمات يمكن أن يقال عنها الكلام لك واسمعي يا جارة “الاسم اليونان، والرأس الاتحاد الأوربي”. وقد ذكر أردوغان في كلمته أن أزمة اللاجئين لا يمكن حلها بإغراق قوارب الأبرياء الذين شرعوا في البحث عن مستقبل أفضل لأنفسهم، وتركهم يموتون، وبناء الجدران على الحدود والزج بالناس في معسكرات الاعتقال، وإنما يكمن حل هذه الأزمة في الجهود التي تعطي أهمية للإنسانية وحياة البشر.

كما لفت الرئيس أردوغان الانتباه إلى تزايد اضطهاد اليونان للمهاجرين في بحر إيجة وشرق البحر الأبيض المتوسط، ثم عرض صورة لأطفال غرقت قواربهم وغرقوا في بحر إيجة، وقال: “بينما نحن الأتراك نكافح حتى لا تتكرر حوادث غرق أطفال آخرين مثل الطفل أيلان الذي رأى العالم جثته على الشاطئ، فإن اليونان على الطرف الآخر لم تتورع عن تحويل بحر إيجة إلى مقبرة للاجئين بتصرفاتها غير المحسوبة وتهورها في عمليات الطرد المخالفة للقوانين الدولية. في الأسبوع الماضي مات الطفل عاصم البالغ 9 أشهر والطفل عبد الوهاب البالغ 4 سنوات مع عائلتيهما نتيجة إغراق غفر السواحل اليوناني القارب الذي كانوا يستقلونه جميعا. ألم يحن الوقت بعدُ للاتحاد الأوربي ومؤسسات الأمم المتحدة ليقولوا: “أوقفوا” هذه الانتهاكات الفظيعة التي لا شك تمثل جرائم بشعة ضد الإنسانية”.

وتصدرت تصريحات أردوغان العناوين الرئيسية للصحف اليونانية، على أساس أنها مزاعم يطرحها أردوغان لمهاجمة اليونان دون دليل.

فيلم الجزيرة:

ولأول مرة تقريبا تُعرض انتهاكات اليونان بوضوح للعلن أمام العالم أجمع، في الفيلم الوثائقي الذي تم بثه على قناة الجزيرة مؤخرًا. في برنامج “ما خفي أعظم” وهو أحد أكثر برامج الجزيرة تأثيرًا والذي أنتج كثيرا من الأفلام الوثائقية الناجحة حول عدد من الأحداث المهمة والحالات الحرجة. وقد أنتج فيلمًا وثائقيًا قيمًا للغاية عرض فيه صورا عديدة وحساسة للغاية لأنها تثبت ما تقوم به اليونان تجاه اللاجئين من انتهاكات وما يحيط بها من علاقات وتفاصيل متعددة. إلى جانب احتوائه على لقاءات مع ممثلي السلطات اليونانية وإجاباتهم وردود أفعالهم حول الأحداث والصور ومقاطع الفيديو التي جمعها أثناء التحقيق والأسئلة التي طرحها عليهم والصور والأدلة التي واجههم بها.

وقد وثق البرنامج تفاصيل عديدة لبعض الوحدات الخاصة التي وظفتها السلطات اليونانية لمواجهة المهاجرين وردهم من حدودها، تلك الأفعال التي تقع في الخفاء والتي كانت تصفها اليونان بأنها مجرد شائعات لا دليل عليها. لكن الفيلم التسجيلي وثق وجود هذه الوحدات الملثمة التي تسمى جيش الظل، الذي تشكل لغرض ضرب المهاجرين الذين يقبضون عليهم وتعذيبهم وتجريدهم من كل شيء وسرقة كل ممتلكاتهم، ثم دفعهم باتجاه تركيا. وفي الواقع يعد هؤلاء المهاجرون الذين وصلوا إلى هذه المرحلة محظوظين مقارنة بالآخرين الذين انتهى بهم الحال إلى الموت في مياه البحر الأبيض المتوسط، حيث تلاشت الإنسانية واتخذت تلك الوحدات من ثقب قوارب المهاجرين وإغراقهم في البحر روتينًا في حربهم ضد المهاجرين الذين لا يرغبون سوى في حياة كريمة بعد أن فقدوها في بلادهم.

وقد حاول الفيلم الوثائقي ونجح في كشف المستور الذي يختفي في ظلام الليل وغيابات الماء على الحدود اليونانية، لكنه لم يتوقف عند حدود ذلك بل تجاوزه إلى تركيز الضوء على ما لا يرغب الآخرون في كشفه ويريدون بقاءه مخفيا، ومن الأمثلة على ذلك: ما زالت الحكومة اليونانية لا تريد الاعتراف بوجود جيش الملثمين أو جيش الظل وتنكره تماما، لكن الصور ومقاطع الفيديو التي عرضها الوثائقي تظهر -بما لا يدع مجالا للشك- الجنود الملثمين وهم يتعرضون للاجئين على مرأى ومسمع من أجهزة الأمن الأوربية. كما فجّر الوثائقي أيضا معلومات تكشف مدى وحشية الطرف اليوناني الذي يوظف في جيش الظل أشخاصا من أصول عربية ويدربهم ليؤدوا عملهم باحترافية ويجبرهم على المشاركة في رد وتعذيب المهاجرين الذين كانوا هم أنفسهم يوما ما منهم.

ولم يكتف الوثائقي الذي تم بثه على قناة الجزيرة بلقاءات في الجانب اليوناني فقط، بل عرض مقدم البرنامج الناجح المذيع تامر المسحال لقاء شاملا لكل نقاط هذا الموضوع مع وزير الداخلية التركي سليمان صويلو.

وقد أثرى ذلك اللقاء البرنامج كثيرا بالبيانات والأرقام، وتبعا لتلك الإحصاءات التي أطلعت وزارة الداخلية الوثائقي عليها، فقد أعادت السلطات اليونانية بهذه الأساليب غير الإنسانية إلى تركيا 61737 مهاجرا منذ عام 2020، ومن هؤلاء 14987 مهاجرا رجعوا عبر الحدود البرية، وقد توفي 152 شخصا وأصيب 200 أخرون في تلك العمليات نتيجة لتلك المعاملة اليونانية لهم. ورغم هذه الأرقام المعلنة فإنها لا يمكن أن ترصد الأعداد الحقيقة المخفية والتي لا شك ستكون أكبر من ذلك بكثير.

التسامح المخزي

والأمر المخزي في هذه الحوادث أن المجتمع العالمي اليوم يظهر تسامحا يتزايد يوما بعد يوم مع محاربة المهاجرين غير الشرعيين، ذلك التسامح الذي يكاد يكون تطبيعا للعنف وتقنينا لانتهاك حقوق الآخرين تحت ستار حفظ الحدود ومكافحة الهجرة غير الشرعية. وفي الواقع هذه هي المشكلة الأكثر خطورة. فالمجتمع العالمي بدلا من تحمل مسئولية مواجهة الظروف القاسية التي كانت وراء سعي هؤلاء المهاجرين إلى سلوك هذا الطريق الوعر فهم كالمستجير من الرمضاء بالنار، فإنه يبحث عن ممر آمن وطريق للهروب بسهولة والتنصل من تلك المسؤولية، الأمر الذي يزيد من تفاقم المشكلة وكأن هذا ما يريده عالمنا اليوم!

ويبدو أن هذا المنطق وهذا التفكير بالتحديد هو الذي يشجع اليونان على ارتكاب تلك الأعمال وانتهاك الاتفاقيات والقوانين الدولية، رغم معرفتها بأن ذلك يمكن أن يعرضها لتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. لكنها أيضا توقن أنها لا تحارب المهاجرين بالأصالة عن نفسها بل بالوكالة عن أوربا كلها، الأمر الذي يعني أنها تقاتل نيابة عن القوى التي لديها سيطرة على فرض العقوبات وتطبيق القوانين الدولية.
فاليونان تفعل ذلك من منطق أمن العقاب، ولا عجب فمن أمن العقاب أساء الأدب.

التعليقات (0)