هاني بشر يكتب: آراء تضاريس الهوية والحاضر اللبناني في فيلم النهر

profile
  • clock 12 يناير 2023, 11:52:10 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

ينهض رجل في منتصف العمر من على طاولته في حديقة مطعم وسط جبال لبنان ليبحث عن أحد العاملين في المكان فلا يجده. يطوف في المطبخ فيجد طعاما يُطهى على النار، وييأس من أن يجد أحدا، فيتجه نحو سيارته ليهم بالمغادرة بصحبة سيدة كانت معه.

يسمعان فجأة صوت طائرات حربية تحلق بارتفاع منخفض، وبعد أن يفحص شيئا في السيارة يلتفت حوله فلا يجد السيدة التي كانت تنظر إلى شاشة هاتفها المحمول، وقادتها قدماها إلى الغابات المحيطة بالمكان على غير هدى في فيلم "النهر" للمخرج اللبناني غسان سلهب، إنتاج 2021، والذي بدأ عرضه على شبكة نتفليكس هذا الشهر.

يعد الفيلم ختام ثلاثية أفلام للمخرج يسبر من خلالها أغوار ذاتية الفرد اللبناني والتي بدأت مع فيلم "الجبل" عام 2010 والذي يجسد قصة رجل في منتصف العمر يهم بالسفر عبر مطار بيروت لكنه يتراجع ويستأجر سيارة يقودها تحت جنح الظلام في طرق سريعة موحشة قبل يصادف أجواء مرعبة

تدور قصة الفيلم حول ملاحقة الرجل لهذه السيدة وسط الغابات بحثا عنها، لنكتشف أن الأمر أعقد من مجرد هذا بكثير، وأنها مرت بصدمة نفسية وهي تبحث عن نفسها فيما يبحث عنها هذا الرجل. يجدها تارة فتتحرك بهدوء بعيدا عنه لتغيب وسط الأشجار، وحين يكمل المسير تبحث هي عنه ليلتقيان مرة أخرى. وعند كل لقاء تتكشف أسرار علاقتهما التي لا يفصح الفيلم عنها بشكل كامل إمعانا في الغوص في رمزية القصة.

لا يوجد طوال الفيلم الذي يمتد لأكثر من ساعة ونصف الساعة سوى هذين الممثلين: الممثل الفلسطيني الشهير علي سليمان، والممثلة اللبنانية يمنى مروان. أما الحوار بينهما فيدور بلغة العيون والأداء الجسدي أكثر من الكلام. كما تلعب تضاريس جبال لبنان الجغرافية دورا محوريا في القصة، إذ تخيم الغيوم على هذه الأجواء في طقس خريفي نزع أوراق الأشجار عن أغصانها في محاكاة للتضاريس النفسية للبنانيين المتعبة من الحرب، التي يطل شبحها بين الفينة والأخرى مع أصوات الطائرات الحربية المحلقة في خلفية المشاهد أو بقايا الأسلحة الإسرائيلية.

يبحث الرجل في رحلته في الفيلم عن الحب، في حين تبحث المرأة عن ذاتها وسلامتها النفسية. وفي إطار سعي كليهما نحو وجته، يحاولان تجميل الواقع القبيح باستخدام شاشة الهاتف. والشاشة هنا تستخدم لتوثيق بعض اللحظات واسترجاع بعض الذكريات، وهي حاضرة دائما في المشاهد وكأنها ملاذ من الواقع الأليم. وفي الأمر إسقاط واضح على دور الهواتف الذكية في الحياة المعاصرة كعنصر أساسي وليس تكميليا. هذا فضلا عن رمزيات واضحة معروفة في الطب النفسي مثل الكلب الذي ظهر عدة مرات، في إشارة لما يعرف بـ"الكلب الأسود"، وهو الوصف الذي يُنسب لنفسية رئيس الوزراء البريطاني الأسبق وينستون تشرشل في فترة صعبة مر بها في حياته. وأصبح التعبير دارجا بعد ذلك لوصف الاكتئاب ككلب أسود يقف خلف الشخص ويهدده.

ويعد الفيلم ختام ثلاثية أفلام للمخرج يسبر من خلالها أغوار ذاتية الفرد اللبناني، والتي بدأت مع فيلم "الجبل" عام 2010 والذي يجسد قصة رجل في منتصف العمر يهم بالسفر عبر مطار بيروت، لكنه يتراجع ويستأجر سيارة يقودها تحت جنح الظلام في طرق سريعة موحشة قبل يصادف أجواء مرعبة. وثاني الأفلام هو فيلم "الوادي" عام 2014 والذي تدور قصته حول رجل يتعرض لحادث على طريق نائية في لبنان ويفقد الذاكرة.

 

رسم المشاهد باستخدام الصوت

اعتمد الفيلم على توظيف مسار الصوت غير معلوم المصدر في معظم مشاهد الفيلم، وكأنه يطل علينا كممثل رابع بعد الرجل والمرأة والطبيعة الجبلية. وبدأ الأمر مع أغنية راغب علامة "يا ريت في خبيها" الرومانسية في أول الفيلم، التي سرعان ما تشوشت قبل أن تنقطع لتغير من أجواء جلسة الرجل مع السيدة في المطعم وتكون نقطة التحول في المشهد الأول. وكأن الصوت هنا معبر عما يريده اللبنانيون وما لا يريدونه. أحيانا تأتي أصوات الغناء محملة بمشاعر الفرح ثم تأتي أصوات الطائرات وبعد ذلك أصوات في الطبيعة تثير الترقب والحذر.

الموسيقى التصويرية منعدمة في الفيلم لحساب الصوت الطبيعي المنبثق من البيئة المحيطة حاملا رسائل درامية شتى تساهم في تعزيز الأجواء النفسية التي يمر بها الرجل والمرأة كل على حدة أو تؤثر فيهما معا عندما يلتقيان في هذه العلاقة المضطربة. وكان أغرب صوت هو صوت السيدة الذي يأتي منشدا أشعارا منسوبة لرابعة العدوية:

عرفت الهوى مذ عرفت هواك

وأغلقت قلبي عمن عاداك

وقمت أناجيك يا من ترى

 

خفايا القلوب ولسنا نراك

وهي أشعار تضع المشاهد في حيرة أكانت السيدة تبحث عن ذاتها الشخصية أم عن روحها، لأن الأبيات التي غنتها أم كلثوم من ألحان رياض السنباطي تشير بشكل رئيسي للحب الإلهي. وهو الأمر الذي بدأ جليا مع شارة النهاية في الفيلم التي أشارت بوضوح للأغنية وكاتبها وملحنها. وهنا يدخل بُعدٌ لم يظهر طوال الفيلم بشكل واضح، وهو البعد الروحي.

يفتقد الفيلم لبعض المبررات الدرامية لحركة البطل والبطلة، فليس هناك إجابة على سؤال كيف يجدها؟ وكيف تجده في كل مرة؟ وكأن الموضوع حدث صدفة صعب أن تتكرر منطقيا في كل مرة إلا إذا كان المحيط الذي يتحركون فيه صغيرا نوعما ما، وهو ما لم تتم الإشارة له في الفيلم ولو بشكل رمزي. على العكس من ذلك، بدا وكأنهما يسران في مسار مستقيم وليس دائريا، لأنهما يكتشفان أمورا جديدة في كل مرة يتحركان فيها مثل كهف مظلم وشلال ونهر.

لا ينتمي الفيلم للأفلام التجارية التقليدية، وإنما -إن جاز التوصيف- ينتمي للأفلام الجمالية التي يمكن أن تجد سوقا رائجا في المهرجانات أو لدى الجمهور الذي يحب هذا النوع من الأفلام بطيئة الإيقاع عميقة المعنى. وهي لا ترضي شغف المشاهد الباحث عن القصة، إذن لا قصة واضحة المعالم هنا، وإنما إيقاع بصري فلسفي ونفسي يتخذ من الذات والهوية والتضاريس اللبنانية منطلقا ليدخل إلى أعماق الإنسان المعاصر وعلاقاته النفسية المضطربة.

 

 

التعليقات (0)