منصف الوهايبي يكتب :الشعرُ معرفةً

profile
  • clock 17 يوليو 2022, 12:24:27 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

تجري المعرفة في النصّ الشعريّ مجرى المجاز أو التعبير الاستعاري أو «الإحيائي» مثلما تجري مجرى التعبير الكنائي أو «الرمزي». وأقدّر بعد عشرة مع الشعر العربي قديمه وحديثه، أنّ في هذه «البينيّة» تكمن الشعريّة. والظرف «بين» ظرف مكان بمعنى «وسطّ»، ولكنّه في منظورنا يتحدّد للزمان أو المكان معا تبعًا للسياق الذي نحن به، على ما تقتضيه «البينيّة»؛ فهي تستلزم الاتصال والمباشرة من منظور؛ مثلما لا تستلزمهما من منظور آخر، إذ يمكن أن تكون انفصالا وقطيعة.
وقد اخترت، حتى أظلّ في الصميم ممّا أنا فيه، أن أقصر الموضوع على المعرفة الشعريّة. ويحسن بنا ونحن نطرح هذا الموضوع ألاّ نقع في الخلط بين تصوّر للمعرفة يمكن أن نسمَه بـ«فطرانيّة» (من الفِطرة)، وهو الذي يبحث في الشّيء ضمن بنية الذّات باعتبارها تشتمل على مبادئ فطريّة؛ وبين موقف يمكن اعتباره «خبرانيّا» ويدور أساسا حول ربط المعرفة بوشائج ممكنة مع العالَم، وهو يلتقطها من عمليّة تمفصل بين الذّات والمرجع. أي يحسن عدم التّورّط في الخلط بين تصوّر للمعرفة يعتبرها قبْليّة، أي هي موجودة حتّى من قبل أن يوجد الشّيء فعليّا وبين تصوّر للمعرفة يعتبرها بعْديّة، أي يوجد والشّيء الذي هو مفهوم له موجود بعد؛ إذ ليست المعرفة هاهنا غير المعنى وهو ينشأ. والمعنى هو علاقة بين طرفين في عموم تعريفه، وعلاقة بين الذّات والشّيء في مخصوص تعريفه بالنّسبة إلى سياق حديثنا حيث المعرفة هي المعنى، في مجرى القول بما هو بالطّبيعة، والقول بما ينتج عن الاصطلاح والاتّفاق بين البشر. وفي حيّز هذين تنشأ المعرفة الشعريّة، أو بين الشعر والأنثروبولوجيا وهما يتبادلان الأدوار باستمرار. بل لعلّهما أشبه بالعلاقة بين اللّغة والفكر، حيث كلّ منهما يستنبت فرعا في الآخر. بل ربّما كان البحث في أصل اللّغة وهو بحث لا طائل منه، بحثا في أصل الشّعر نفسه أي في «اللّغة الأمّ للجنس البشري».
وهذه من القضايا المطروحة التي تعيدنا اليوم إلى قضيّة اللغة والرمزية، لعلاقتها بقدراتنا على «قول» العالم أو استنطاقه. أمّا من منظور علميّ خالص، فإنّ «التوفيق» بين لغات الأنثروبولوجيا والشعر، قد لا يكون أكثر من بذْل ضائع؛ على ما فيه من إغراء وفتنة، فكلاهما سعي دائب إلى تمثّل الأشياء وجعل المرئيّ «مرئيّا»، أي حاضرًا ماثلا لنا باستمرار. والشعراء شأنهم شأن علماء الأنثروبولوجيا، ينشدون أبدا أن «يوصّلوا» لنا القَوْلَ، بالعبارة القرآنيّة المحكمة؛ أَي ذِكْرَ الواقع وكشف أشيائه، وقراءة أساطيره ووصل تمثّلات ما مضى وما يجري؛ بعضها ببعض. وعليه، فإنّ القول بـ«إنشائيّة» الأنثروبولوجيا، أو «شعريّتها» أو «أدبيّتها» سائغ مقبول؛ حيث يعرف الباحث المتمكّن من المجالين، كيف يصل الصوت بالمعنى والرمز، وهو يحتفظ لكلّ منها بمكانه.
ما قرأته في السياق الذي أنا به، يعزّز صلة الرحم بين الأنثروبولوجيا والأدب عامّة؛ وعلماء الأنثروبولوجيا يعرّفون أنفسهم على أنّهم «منتجو» الأدب أو «صانعوه»، وبعضهم كانوا هم أنفسهم شعراء وكتّابا مثل رائدة الأدب الشفوي روث فينيجان (1933) التي كنبت روايتها الأولى «لؤلؤة الحبر الأسود»، وقد تخطّت الثمانين (غير مترجمة إلى الفرنسيّة بعد، حتى تتسنّى لي قراءتها). بل لا يتردّدون في نعت أنفسهم بـ«مستنسخي» الأدب، أو «مستصنعيه» إذا جاز لي هذا الاشتقاق، استئناسا بتخصّصهم في «الإثنية الشعريّة»، وفقًا للمصطلح الذي أشاعه جيروم روتنبرغ، في كلامه على شعر «الآخرين». لكن لدينا أمثلة أخرى لعلماء لم يعرف عنهم إنتاج الأدب أو صناعته، أو قراءة الشعر؛ ولكنّهم «انتقلوا» مع ذلك إلى دراسة «الشعر الشفهي»، وكانت لهم تخريجات ولطائف. ونذكر منهم ستيف كاتون، الذي رحل إلى المملكة العربية السعوديّة من أجل أطروحته في الأنثروبولوجيا السياسية؛ فإذا به يقف على الدور الرائد الذي ينهض به الشعر «النبطي» في النسيج الاجتماعي والثقافي؛ في جزيرة العرب وفي اليمن حيث تقاليد الشعر الأكثر عراقة. ولعلّ أبرز ما نستخلصه من بحوث هؤلاء، وهي «ميدانيّة» أنّ الجامع بين الشعري والإثني وظيفيّ: إضفاء معنى على الوجود أو محاولة احتواء الكون أو امتلاكه. بل إنّ العلاقة بينهما تكاد تكون صورة من العلاقة بين الشعر والفلسفة، أي لم تكن قط لا مبالاة أو عدم اكتراث، ولا كانت حرّية استواء.  ونعرف من تاريخ الفلسفة أنّ أفلاطون ارتاب في قيمة التجربة الجماليّة، وطَعَنَ على الشعر التمثيلي، وأخرج الشعراء من جمهوريته، لأنه وجد نفسه في عالم كتابيّ جديد؛ في حين أن شعر هوميروس وغيره كان يأخذ برواسم وصيغ شفهيّة، هي في منظور أفلاطون من القديم الضارّ، وإن ساق في «فيدروس» و«الرسالة السابعة»، على لسان سقراط، تحفّظاته المثيرة على الكتابة من حيث هي طريقة آليّة في حفظ المعرفة، ونصّ صامت وتغريب لوضع طبيعي، إذ تُضعف الذاكرة، وتؤسّس خارج العقل ما لا يمكن إلا أن ينشأ داخله. على أنّ الشعر بما في ذلك شعر ما قبل الإسلام «مكتوب» حتى وإن تأدّى بصيغة شفويّة؛ وقد ذكرت في مقالات سابقة استئناسا بجاك غودي أنّ المرء يمكن أن يكون عارفا بالكتابة، جاهلا بالخطّ، فالكتابة بنية وصنعة؛ وأكثر شعرنا القديم يجري في هذا المجرى. ولعلّ أخذ هذه «المصادرة» بالاعتبار ممّا يغري بقراءة القرآن من منظور «الاثنيّة الشعريّة» وعلاقتها بالكتابة وأدواتها بدءا من سورته الأولى «العلق. وقد يصعب أن نفهم موقف القرآن من الشعر ومن الشعراء الذين «لم يؤمنوا»، ما لم ندرك مكانة الشّعر في ثقافة العرب القدامى وأسباب عنايتهم به وتأثّرهم له وحسن اعتقادهم فيه.
وهو اعتقاد لم يهتزّ إلاّ مع الحدث القرآنيّ ثم مع الكتابة الديوانيّة في العصور المتأخّرة. فقد أرست صورة الشّاعر «القرآنيّة «، فكرة القطيعة بين الوظيفة الشّعريّة ونشدان المعرفة، وميّزت بين قول الشّاعر وفعله. بل جعلت هذا نقيض ذاك، بالرغم من أنّ الأمر في الشّعر يتعلّق بفعل القول أو صنعه أي أنّ الفعل في القول وليس خارجه. ومهما يكن فقد نزع القرآن إلى إنزال الشّاعر من «منزلة أشرف العالم وأفضلهم» بعبارة حازم القرطاجنّي، ومن مرتبة «السّاحر» إلى مرتبة «الصّانع»، وهو الذي ذهب بصورة الشّاعر من حيث هو ظلّ لقوى غيبيّة مرهوبة تعلّمه الشّعر؛ على إقراره بوجود «شياطين الشّعر». ولكنّ القرآن اتّخذها وسيلة للنّيل من سلطة الشّعر، والغضّ من شأن الشّاعر ونسخ تأثيره، حتى لا يقاس النّبيّ والشّاعر بمقياس واحد، ولا توزن اللّغة الوحي بميزان اللّغة/ الشّعر. وقد لا يخفى ما في هذه الأسطورة من روح دينيّة من نوع آخر؛ قد تنمّ على رغبة الأقدمين في التّسامي بالشّاعر من حيث هو «كائن خاصّ» وبـ «الشّعر» باعتباره لغة خاصّة؛ وإن كنّا أميل إلى القول بأنها تفسّر امتناع «الشّعر» على أيّ حدّ، فهو نبت اللّغة وثمرة الأسطورة؛ وكأنّه لا يستشفّ إلاّ بالحدس والظّنّ. على أنّ القرآن وإن عرّض بصدق الشّاعر وفصل بين قوله وفعله، وأخذ عليه انصرافه عن تقدير الحقيقة، ونعته بالهيام أو الجنون والوسواس والحيرة وذهاب العقل، فقد بسط للشّعر والنّقد كليهما أمدا فسيحا. ورأي الجاحظ في أسباب نشوء فكرة شياطين الشّعر، فيه مقدار كبير من الصواب؛ فقد ردّ ذلك إلى الوحشة والانفراد والبعد من الأنس، واعتبره من التّوهّم والخيالات الفاسدة وانتقاص الأخلاط. وما نخال مقولات القدامى في الكذب والادّعاء والإيهام والتّخييل وعزل الشّعر عن الدّين إلاّ إحدى ثمرات النّصّ القرآنيّ.
بل لو نحن ترسّمنا مفهومي المعرفة والشعر، والمعرفة والأنثروبولوجيا، لهان خطب العلاقة بينهما، ولما كانت هذه العلاقة مبعث إحراج لنا. ومأتى الإحراج، إنّما هو الشعر أو مفهومه الذي يندّ عن كلّ مسعى لحدّه. وإذا جاز القول إنّ الشّعر يُعرف ولا يُعرّف، حتى ليمكن عدّه «أصل» الدين نفسه؛ وكان العرب على ما ينقله حازم القرطاجنّي عن ابن سينا، لا يقرأون الشعر إلاّ على وضوء؛ فالسؤال عن مكمن الدين أشبه بالسؤال عن مكمن الإبداع عامّة والشعر تحديدا، لا يزال محفوفا بالغموض: أهو في الدماغ؟ أم هو في ما يسمّى «الذاكرة اللوزيّة» أم في الخوف من الموت؟ والشعور الديني إنّما هو محصّلة هيمنة شعور باطنيّ فريد من نوعه، ووعي مباشر بحضور المقدّس أو الإلهي.
وهذه من الأسئلة التي تتولّد في تأصّل وتفرّع: كيف نعرف؟ أو ما هي حقيقة هذه المعارف وما هو وجه الصواب فيها؟ وهل هي تشمل حقيقة الأشياء في ذاتها؟  وهل مصدر المعرفة طريق خفيّ هو طريق الحسّ أو الإلهام أم هل هو الاختبار والحسّ والمشاهدة أم هل هو العقل أو ما نعتبره مبادئ عقليّة عامّة وقوانين شاملة؟
*كاتب من تونس


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)