أحدث الموضوعات
20 أبريل 2024
كان فريق من المصلحين في الجيل السابق يؤمن بمبدأ التخلية ثم التحلية، بمعنى أن المرء إن أراد أن يصلح أو يصحح فعليه أن يزيل الفاسد أو الخطأ، ثم يضع مكانه الصالح أو الصحيح. وكانوا يضربون مثلا شائعا هو الكأس المملوءة خمرا التي نريد أن نملأها ماء. ببساطة تفرغ الكأس من الخمر تماما ثم تملؤها ماء.
في الحقيقة ربما تنجح هذه الوصفة السحرية السهلة في الإصلاح الفردي النفسي، فالقلوب أوعية، وتتقلب بين عشية وضحاها، لكن المجتمعات ليست كذلك.
لو أردت أن تفرغ الكأس من الخمر، فيجب عليك أن تضعها تحت الصنبور وتدع الماء ينهال ويخالط الخمر ويخففه شيئا فشيئا، حتى يصير كل ما في الكأس ماء صافيا. تبدو هذه الطريقة أصعب وتستهلك جهدا ووقتا وموارد أكبر، لكنها واقعية.
المجتمعات بطيئة التغير، وتحتدم فيها دوما المدافعة بين طرفي الحق والباطل الموجودين منذ القدم. أغلب أشكال الفحش والانحراف والشذوذ التي يظن أصحابها أنهم مبدعون عرفتها الأمم السابقة، حتى في عصر الأنبياء.
يتنازع الحق والباطل جغرافيا المجتمع، يحاول كل طرف منهما أن يحتل المساحة الكبرى، ويدفع الآخر إلى الأركان أو عن حافة جرف الحياة:
في هذا المدافعة الأبدية الدورية التي تنقلب فيها كفة الميزان والمعايير، لا يمكنك أن تستقر على حد السيف في منطقة وسطى، ولا يمكنك أن تكتفي بالصلاح عن الإصلاح، يجب عليك أن تنكر الباطل ولو بقلبك.
حجج فريق الفن “المزعوم” كلها بالية، لا من منظور عقلي فقط بل من منظور الفن نفسه، وهي:
يحلو لهذا الفريق استعمال حجة: “أنتم تجحدون أن الواقع فيه فواحش وانحراف، وتدفنون رؤوسكم كالنعام”. يتغافل هؤلاء عن أن الله قد قال: “إن الذين يحبون أن “تشيع” الفاحشة…”، القرآن واقعي ولذلك لا يقول: “يحبون أن تُوجد”، لأنه حتى في عصر النبي والقرآن ينزل عليه كانت تقع الفواحش كالزنا وغيره.
وليس مطلوبا أصلا من الفن أن ينقل الواقع، ولا أن يكون إخباريا كالنشرة، ولا معنى أبدا لأن تنقل لي واقعا أنا أعلم به، أتكلمني عن بلطجية الحواري وأن أعود من عملي ليلا أخاف التثبيت، وأنت أولادك يلعبون في حديقة الكمبوند في الوقت نفسه تحتضنهم أسواره وحراسه؟
المشكل هنا أن التركيز منصب على السيئ القليل في الواقع، وهذا سيؤدي بالضرورة مع الوقت إلى زيادته على حساب الجيد الكثير واقعيا، الغائب فنيا.
ذلك المذهب البالي حيث نشأ في الغرب، والذي ثبت بطلانه وأن للفن -شاء مبدعه أم لم يشأ، أدرك أم لم يدرك- رسالة أيديولوجية أو أخلاقية أو اجتماعية، وله تأثير في سلوك الناس، لأنه يقدم لهم قوالب سلوكية جاهزة.
هل نحتاج إلى أدلة على أن التعرض لأفلام البلطجة والتفاهة زاد من حجمهما اجتماعيا؟ وأن الناس يقلدون “الفنانين” في شكلهم ومبادئهم وألفاظهم؟ فلو قلت لهم قدموا نماذج “نظيفة” لتزيد وتنتشر، فأنتم تعلمون أن الناس يقتدون بكم، جاؤوك بالرد الدامغ: “إحنا مش مصلحين اجتماعيين، إحنا فنانين”.
نحن ننشر على وسيط خاص أو على قناة خاصة لا تضغط على زرها، وهذه أكثر الحجج سذاجة. منذ دخل العالم كله عصر الإنترنت تجرد من خصوصيته.
كل كلام عن الخصوصية في النشر الآن أو خصوصية الوسيط، هو حيلة رخيصة يعلم أصحابها أن منتجهم سيحظى بانتشار ودعاية مجانية أكبر مما لو نشر نشرا عاما من أول أمره، وأنه سيحظى بالعمومية بعد حين، المسألة مسألة وقت، فعبارة “ممنوع من العرض” تكملتها “…مؤقتا!”.
هذه المدافعة هي ساحة بلاغية من الدرجة الأولى، يستعمل فيها الطرفان التقنيات نفسها، كل فريق متسلح بالتهم المعلبة والشتائم الجاهزة بالجهل والتخلف والطبقية والذوق المريض والفطرة المنحرفة، اقرأ هذه الآية: “إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها”. هل تتخيل أنهم يتهمون النبي بأنه كاد أن يوقعهم في الضلال؟!
ربما يكون الحل هو الدفع، إراقة الماء الصافي على تلك الخمر، الدفع بالجميل والصحيح والصالح إلى جوار ضدها، ونشر الخير والاحتفاء بأهله، والتركيز على الإيجابي ليتزايد ويدفع السلبي.
وظيفة من هذه؟ وظيفة كل إنسان عاقل، وألا يسكت حينما يرى سفينة المجتمع يخرقها المترفون.
وعليه ألا يخشى فزاعة “إنتوا بتتكلموا عن الفضيلة لأنكم فاسدين، كتعويض نفسي”، بل يقر كل فرد بذنوبه وتقصيره، دون مجاهرة بمعصية، ويطلب من الله الستر والعافية، ولا يسكت عن إنكار الباطل وإن كان من أهله.
*****************
د. إبراهيم عبد التواب
مدرس اللسانيات والبلاغة بكلية الآداب جامعة القاهرة