دبلوماسية الغذاء: كيف تصاعد تأثير القمح في العلاقات الدولية؟

profile
  • clock 20 أبريل 2022, 6:28:48 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

هدى سعيد : إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

منذ بداية العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، ارتفعت مخاوف حكومات الدول المستورِدة للقمح من تداعيات الحرب على سلاسل توريد السلع الغذائية، وتعطُّل إمدادات القمح العالمية، أو استغلال واردات القمح لتحقيق أهداف سياسية من جانب أحد طرفي النزاع؛ لكون الدولتين طرفي الصراع الرئيسيَّين من أهم مُصدِّري القمح في العالم؛ حيث تعتبر روسيا ثالث مُنتِج للقمح في العالم، بنحو 86 مليون طن، وأوكرانيا التاسعة عالميّاً بـ27 مليون طن. وتنتج الدولتان معاً نحو 15 % من إنتاج القمح العالمي، وتمثلان نحو 23 % من صادرات القمح في العالم. وتؤدي الاضطرابات المتزامنة في المحاصيل الغذائية، وعدم قدرة المزارعين الأوكرانيين على زراعة المحاصيل، بما في ذلك القمح، إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتعطُّل إمدادات الغذاء العالمية؛ ما يُهدد بإشعال أزمة غذاء عالمية.

أهمية استراتيجية

ربما كانت الأزمة الأوكرانية لحظة كاشفة لأهمية القمح السياسية؛ فعلى مدار السنوات الماضية، لم يعد القمح مجرد سلعة غذائية تُستخدَم في ضمان الأمن الغذائي وتلبية احتياجات أفراد المجتمع، بل بات أداة للتأثير السياسي وتعزيز النفوذ لعدد من الدول. وفي هذا الصدد، يمكن القول إن الأزمة الأوكرانية عززت الأهمية الاستراتيجية للقمح؛ لعدة اعتبارات، في مقدمتها:

1– احتكار إنتاج القمح: يسيطر خمسة منتجين للقمح فقط على أكثر من نصف إنتاج القمح العالمي، وهم: الصين، والهند، وروسيا، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي. ومع إضافة منتجين آخرين، كأستراليا وكندا، وأوكرانيا، تصل النسبة إلى أكثر من 80% من إجمالي إنتاج القمح العالمي، وهو ما يعني أن واقع إنتاج وتصدير هذه السلعة الاستراتيجية، يتسم بطابع احتكاري إلى حد بعيد؛ ما يسهل سيطرة الدول المنتجة للقمح على الدول المستهلكة، وإمكانية استخدامه أداةً دبلوماسيةً لتحقيق رغباتها.

2– الاعتماد على القمح الروسي والأوكراني: تسهم روسيا وأوكرانيا سنوياً بأكثر من ربع الصادرات العالمية من القمح؛ أي بنحو 55 مليون طن، القسم الأكبر منها يُشحَن عبر البحر الأسود إلى مختلف الوجهات، وعلى رأسها الدول العربية التي أضحت في مقدمة دول العالم استيراداً للقمح الروسي والأوكراني، وتُعرف أوكرانيا باسم سلة غذاء أوروبا. وحسب العديد من التقارير، صدَّرت أوكرانيا في عام 2020، نحو 18 مليون طن متري من القمح، وهو الأمر الذي يضعها في المرتبة الخامسة عالميّاً ضمن أكبر مُصدِّري القمح. وتضم قائمة الدول المستورِدة للنفط الأوكراني، العديد من دول الاتحاد الأوروبي ودول العالم النامي. ومن جانبها، تُشكِّل روسيا وأوكرانيا مصدراً هامّاً للنفط للعديد من الدول؛ فالكثير من الدول العربية تعتمد اعتماداً أساسيّاً على القمح المُستورَد من الدولتين في توفير الاحتياجات الغذائية، نظراً إلى انخفاض أسعار القمح الأوكراني والروسي مقارنةً بنظيره الغربي، وقصر وانخفاض تكلفة نقله إلى الأسواق العربية.

3– أولوية الأمن الغذائي: أعادت الأزمة الأوكرانية الاعتبار إلى قضية الأمن الغذائي بعد أن توارت خلال السنوات الأخيرة خلف قضايا سياسية وأمنية؛ فقد برزت من جراء الحرب الروسية الأوكرانية، ملامح أزمة غذائية ناجمة عن نقص في سلعة القمح، وهي سلعة ضرورية ترتبط بالنظام الغذائي في كثير من الدول. ومن ثم، يواجه عدد كبير من الدول بالفعل خطر انعدام الأمن الغذائي؛ بسبب عدم الاستقرار السياسي المستمر، أو العنف المباشر في تلك البلاد. وحتى برنامج الغذاء العالمي يحصل على 50% من إمدادات الحبوب من منطقة أوكرانيا وروسيا، ويواجه الآن زيادات كبيرة في التكلفة في جهوده لمكافحة حالات الطوارئ الغذائية في جميع أنحاء العالم. ويُعضِّد هذه الإشكالية تقديرات برنامج الأغذية العالمي بأن هناك أكثر من 800 مليون شخص يُواجهون شبح الجوع في جميع أنحاء العالم، بينما يتأرجح 44 مليون شخص في 38 دولة من حافة المجاعة.

4– التأثيرات الممتدة لارتفاع الأسعار: أدت الأزمة الأوكرانية إلى ارتفاع في أسعار القمح والمواد الغذائية؛ بسبب زيادة تكاليف النقل والشحن والتأمين من ناحية، أو بسبب الزيادات المتوقَّعة في أسعارها، من جراء انخفاض المعروض منها في الأسواق العالمية. وقد تؤدي قيود سلسلة الإمدادات الغذائية إلى زيادة الأسعار في جميع المجالات، حتى البلدان التي لا تعتمد على أوكرانيا أو روسيا من حيث الواردات الزراعية، قد تشهد ارتفاعًا في أسعار المواد الغذائية؛ بسبب زيادة أسعار الوقود التي تؤثر على تكاليف نقل الغذاء، وانخفاض إمدادات الأسمدة، ومن ثم تقلص الإنتاجية والإمدادات الزراعية العالمية. وارتفعت التعاقدات الآجلة على القمح بنسبة 16%. وإذا استمرت الأزمة إلى ما بعد شهر مايو فقد ترتفع الزيادة إلى 20% أو أكثر. وقد قفز سعر طن القمح إلى أكثر من 410 دولارات مؤخراً مقابل نحو 260 دولاراً قبل نحو ستة أشهر. ومع استمرار الحرب، ستشهد الأسعار المزيد من الارتفاع، الذي يسهم في زيادة فاتورة واردات الدول المستوردة للقمح.

النفوذ الدولي

كشفت الأزمة الأوكرانية الراهنة عن تصاعد توظيف القمح سياسيّاً في العلاقات الدولية، وهو التوظيف الذي اتخذ عدداً من المظاهر والتجليات الرئيسية المتمثلة فيما يأتي:

1– استخدام صادرات القمح الروسية أداةً دبلوماسيةً: استمرت موسكو في استخدام القمح أداةً دبلوماسيةً مهمة في إدارة علاقاتها بالدول الأخرى، وهو التوجه الذي تعاظم خلال السنوات الماضية، وخاصةً بعد فرض عقوبات غربية على روسيا عام 2014، إثر قيامها بضم شبه جزيرة القرم؛ إذ لجأت موسكو بعد ذلك إلى فرض عقوبات مضادة، منعت بموجبها استيراد المنتجات الغذائية من أوروبا والولايات المتحدة، ودعمت الإنتاج الزراعي المحلي، لتصبح روسيا البلد الأكبر من حيث المساحات المزروعة بمحاصيل القمح، وفي عام 2017، أصبحت المصدِّر الأول للقمح في العالم، متجاوزةً الولايات المتحدة وكندا لأول مرة، ومُسيطرةً على معظم أسواق آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا. ومنذ ذلك الوقت، باتت الصادرات الروسية تمثل أداة دبلوماسية–اقتصادية في علاقات موسكو بالدول الأخرى؛ ففي عام 2015 حظرت روسيا نسبة من الصادرات الغذائية إلى تركيا ضمن مجموعة من الإجراءات للرد على إسقاط القوات التركية طائرة مقاتلة روسية. ولكن بعد عامين من هذا القرار استؤنفت الصادرات في ضوء تحسُّن العلاقات الروسية التركية، وخاصةً أن تركيا وافقت على نقل الغاز الروسي إلى أوروبا، وهكذا أصبحت أنقرة أكبر مستورد للقمح الروسي في عام 2019.

2– دور القمح في الحصول على الدعم الخارجي: وهو ما تجلى – بشكل أو بآخر – في السياسة الأوكرانية؛ إذ حاولت الدعاية الأوكرانية الحصول على الانتباه والدعم الدولي من خلال إرسال رسائل أن ما يجري لن يتوقف عند حدود الشعب الأوكراني، بل سيمتد إلى الدول الأخرى من زاوية أمنها الغذائي. وتعززت هذه الفرضية بفعل تراجع القدرة الإنتاجية الزراعية لأوكرانيا؛ حيث يقع الجزء الأكبر من الأراضي الزراعية الأكثر إنتاجيةً في أوكرانيا في مناطقها الشرقية الواقعة بالقرب من المناطق التي سيطرت عليها القوات الروسية؛ ما يعني انخفاضاً حادّاً في إنتاج القمح، وتراجع صادراته نتيجة تدمير البنية التحتية الحيوية، والمعدات الزراعية، ومرافق تخزين الحبوب، والتسبُّب في نزوح جماعي للمزارعين، كما تم قطع طرق الإمداد البحري الرئيسية عبر البحر الأسود.

وبالرغم من زراعة أوكرانيا نحو 6.5 مليون هكتار من القمح الشتوي لحصاد عام 2022، فإن المساحة المحصودة قد لا تزيد عن 4 ملايين هكتار بسبب الحرب في العديد من المناطق الأوكرانية. وعقب إغلاق الموانئ الأوكرانية، أصبح المزارعون يدرسون التحول إلى المحاصيل الملائمة أكثر للاستهلاك المحلي من التصدير. وتقدر مؤسسة “بارفا إنفست” الاستشارية إجمالي إنتاج القمح المتوقع بـ16.7 ملايين طن؛ أي نحو نصف إنتاج العام الماضي.

3– وسيلة للخروج من العزلة: ظهر هذا النمط في طريقة تفاعل موسكو مع العزلة المفروضة عليها عقب تدخُّلها العسكري في أوكرانيا؛ حيث وظفت روسيا القمح من أجل توسيع دائرة علاقاتها ودفع الدول الأخرى إلى تجنب الانحياز نحو المعسكر الغربي في الأزمة. وفي هذا الإطار، أعلنت روسيا اعتزامها تصدير الغذاء والمحاصيل إلى “الدول الصديقة” فقط، على أن يباع بالروبل أو بعملات تلك الدول بنسب متفق عليها؛ ما يُعَد عامل ضغط على الدول المستوردة لتأييد الموقف الروسي.

4– تعزيز الحضور الدولي: حيث عبَّرت الأزمة الأوكرانية الراهنة عن مساعي بعض الدول إلى استخدام ورقة القمح في تعزيز الحضور على الساحة الدولية ودعم المصالح الاقتصادية؛ فمع بدء الحشد العسكري الروسي على حدود أوكرانيا، بدأ بعض منتجي القمح في جميع أنحاء العالم يزيدون إنتاجيتهم؛ فعلى سبيل المثال، سعت الهند إلى توسيع صادراتها من القمح، وحاولت عقد صفقات مع الدول الأخرى التي تضررت من تراجع إمدادات القمح الروسي والأوكراني، وهو أمر يتسق مع استراتيجية زيادة الإنتاج التي تبنتها الهند في السنوات الأخيرة؛ ففي عام 2021–2022، أضافت الهند 5.75 مليون طن متري إلى تجارة القمح العالمية، وهي زيادة تغطي تقريباً النقص من أوكرانيا وروسيا بمفردها.

ويبرز في هذا السياق عدد من الدول الأخرى؛ منها أستراليا التي كان لها محصول قمح قياسي لعام 2021، ويدلل على احتمالية توسع صادرات القمح، كما زادت جنوب إفريقيا بالفعل مساحة القمح المزروعة لديها استجابة لتداعيات الأزمة الأوكرانية؛ ما أسهم في زيادة إنتاج القمح من خارج أوكرانيا. وعليه، ترتفع التوقعات بتجاوز محصول القمح العالمي لعام 2022 الاستهلاك لأول مرة منذ عامين.

5– تشويه صورة الدول الأخرى: شكَّلت الحرب الأوكرانية فرصة مواتية لاستخدام القمح ضمن حملات الدعاية المضادة والوصم الأخلاقي المتبادل بين الدول. ولعل النموذج الأبرز لذلك، تبادل الاتهامات بين روسيا وأوكرانيا حول مسؤولية منع سفينة مُحمَّلة بالقمح الأوكراني كانت متوجهة إلى مصر؛ حيث نشرت السفارة الأوكرانية بالقاهرة يوم 4 أبريل الجاري، خبراً عبر صفحتها الرسمية على تويتر قالت فيه إن “القوات الروسية الموجودة في أوكرانيا تمنع سفينة الشحن إماكريس 3 المحملة بشحنة قمح أوكراني اشترتها الحكومة المصرية، من التوجه إلى القاهرة”.

وفي مقابل هذا البيان، نشرت السفارة الروسية في القاهرة بياناً نفت فيه الاتهامات الأوكرانية، وذكرت أن القوات الأوكرانية هي التي تمنع حركة السفن في مناطق “أوديسا وتشيرنومورسك”، كما أكدت أن “الأسطول البحري الروسي يضمن حرية حركة السفن التجارية، وأن السلطات الأوكرانية هي من تمنع خروج السفينة من الميناء”.

تجنب التسييس

خلاصة القول أن تصاعد توظيف القمح في العلاقات الدولية يتطلب تضامناً عالمياً يقضي بعدم تسييس الإمدادات الغذائية والفصل بين السلع الغذائية – وفي مقدمتها القمح – وبين أهداف الحكومات المُصدِّرة؛ فمن دون اتخاذ إجراءات متضافرة لمعالجة إمدادات الغذاء والقدرة على تحمل تكاليفها، سيسهل على الدول المنتجة فرض سيطرتها على الدول المستوردة؛ ما يُعمِّق أزمة الغذاء في العالم، لا سيما في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

ومن ثم، يجب استغلال الفرص البديلة المتاحة في ظل الحرب الأوكرانية، بأن تراجع الدول المستوردة تحالفاتها الخارجية وسياساتها الداخلية؛ لتقوية البنى التحتية لديها، وبناء تحالفات اقتصادية جديدة تؤمن لها سلاسل التوريد، والتضامن الدبلوماسي، وتبادل التقنية والخبرات، فضلاً عن تعزيز التعاون الزراعي البيني، وتوظيف الأراضي الزراعية غير المستغلة بتوجيه الاستثمارات إليها؛ لزيادة إنتاج المحاصيل الزراعية الاستراتيجية، كالقمح والذرة والأرز؛ لتنويع سلة الغذاء، كما يتطلَّب تحقيق الأمن الغذائي إقامة تكتلات اقتصادية لتقوية الموقف التفاوضي مع الدول والتكتلات الاقتصادية الأخرى، وتعزيز ثقافة الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية الرئيسية؛ وذلك من خلال تنفيذ مشروعات زراعية عربية مشتركة لإنتاج السلع الغذائية الاستراتيجية، وإقامة مخزون استراتيجي من السلع الغذائية الأساسية، ووضع نظام لتنفيذه وإدارته، وتنفيذ برامج طويلة الأمد لتحسين إنتاجية العمل لدى صغار المزارعين، والاهتمام بالتقدم العلمي التقني والبحثي.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)