أحدث الموضوعات
27 أبريل 2024
أعترف لكم في البداية بأنه لم تكن تربطني بكرة القدم وشائج كبيرة، ولكن مونديال قطر شكل نقطة تحول عندي، وأدركت أهمية كرة القدم ليس فقط باعتبارها مجرد رياضة، بل لارتباط الملايين من البشر في العالم بها، مما يجعل لها أبعادا ثقافية واجتماعية تتخطى الرياضة.
أعتقد أن ما حدث لي من تحول في النظر إلى كرة القدم هو إدراك مشترك مع كثير من المثقفين في العالم، وقد وجدت في الكتاب الذي أصدرته مؤسسة "العربي الجديد" تحت عنوان "سحر كرة القدم، أدباء من الشرق والغرب يحكون عن الشغف باللعبة الأكثر بهجة" ما يترجم هذه التحولات التي عاشها كتاب وأدباء في كثير من مناطق العالم في علاقتهم بكرة القدم، وإذ أثني على هذا العمل الذي أعده وحرره الأستاذ معن البياري، فإني أثمن هذه المبادرات الثقافية التي تُغني المكتبة العربية بكتاب ممتع ومفيد واستثنائي، وأقدر للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات حرصه على تعزيز الوعي ومقاربة الظواهر الثقافية التي يعيشها الوطن العربي.
لقد وجدتُ في الكتاب تجارب وحكايات صادقة لمبدعين من كل القارات عرفوا كرة القدم في فترة من فترات حياتهم، فكانت مثل لحظة تحول في نظرتهم للحياة، وبعضهم مارسها فخلّفت في وجدانه ما يخلفه الحنين إلى ذكريات لا تُنسى، وبعضهم اتخذ مكان المُشاهد فلم يستطع أن يتغلب على التورط في المتابعة، فقد أصبح لهذه الرياضة نوع من السحر على الكتاب الذين عادة ما نعتقد أنهم في أبراجهم العاجية وليسوا في ملاعب كرة القدم أو أمام الشاشات يتابعون بحماسة البطولات المحلية والدولية.
لقد شدني ما قاله الكاتب الروماني إيون دياكونيسكو في وصفه كرة القدم إنها "تلك الأداة المميزة التي تنتقل من روح إلى روح، إذ إننا في حاجة إلى إيقاع حياة، إلى سلوك جديد إلى إنسانية جديدة، كرة القدم ليست منقذا بكل تأكيد، غير أنها تجعل الأرض مكانا أفضل"، ويعني هذا القول أن رياضة كرة القدم وسيلة من وسائل التقارب بين البشر، لما تتضمنه من قيم ثقافية.
الكاتب الروماني إيون دياكونيسكو: كرة القدم ليست منقذا بكل تأكيد، غير أنها تجعل الأرض مكانا أفضل (غيتي)
لذلك، ليس من الغريب أن يتضمن "موسم الندوات" في دورته الثانية موضوعا يتعلق بمونديال قطر، بل إنني أثني على هذا الاختيار الذي يعكس فهما للظواهر الثقافية التي تحتاج إلى دراسة واستفادة، ويعد موضوع "الإرث الثقافي للمونديال" من الموضوعات المهمة التي تندرج ضمن قضايا الساعة الفكرية والثقافية، فقد ارتبط المونديال بالأبعاد الثقافية، وهو ما أشار إليه صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، حفظه الله، بقوله: "إننا لن نمنع أي شخص من القدوم إلى بلدنا والاستمتاع بكرة القدم، وإننا نحترم كل ثقافات العالم، ونتوقع من الجميع احترام ثقافتنا".
الدكتور حمد بن عبد العزيز الكوّاري في ندوة الإرث الثقافي بالدوحة (وزارة الثقافة القطرية)جانب من ندوة الإرث الثقافي بالدوحة (وزارة الثقافة القطرية)
لقد حدد صاحب السمو بشكل واضح الموقف الثقافي لدولة قطر من هذا الوجود الدولي، وبيّن الهدف منه، بالإضافة إلى مهمته الأساس وهي الرياضة، وهو أن يكون المونديال مناسبة لتأكيد التفاعل والاحترام المتبادل بين الثقافات، ولم يكن هذا القول مجرد شعار لفظي، ولكنه تجسّم على أرض الواقع ليكون ممارسة ناجحة أثبتت أن دولة قطر لن تتخلى عن قيمها الثقافية وستتدخل لمنع التجاوز لهذه القيم عندما يحاول البعض ذلك. وقد قدمت قطر ثقافتها وقيمها على امتداد فترة المونديال، فأتاحت للزوار من الثقافات المختلفة التعرف على ديننا وثقافتنا وقيمنا الاجتماعية وتأكيد مبدأ الاحترام المتبادل بين الثقافات.
جانب من أنشطة مبادرة "حيّهم" للترحيب بضيوف المونديال (الجزيرة)
مسجد كتارا يجذب جمهور المونديال (رويترز)
مونديال قطر تحوّل إلى حدث لتفاعل مشجعي العالم مع الثقافة العربية (رويترز)فن العرضة من الفنون التي شاركت في فعاليات المونديال (وكالة الأنباء القطرية)
لذلك لم يكن هذا الحدث مجرد مناسبة رياضية عابرة، بل هو منعطف تاريخي لقطر وللعرب ولكل الدول التي تسعى لرقي الحضارة الإنسانية، حتى أنني أعتبر هذا المنعطف نقطة استئناف الحضارة العربية لدورتها.
وهدفي في هذه المداخلة أن أعمل بما ناديتُ به طويلا، وهو ضرورة تفعيل مكتسبات نجاح المونديال على المستوى الثقافي حتى لا تحُول فرحة النجاح دون مواصلة العمل على تعهد هذه الشجرة التي تحتاج إلى العناية كي تورق أغصانها وتطرح ثمارها على الدوام. ويعني ذلك أن نفكر في ما بعد المونديال حتى نبتعد عن ذلك الأسلوب في التفكير الذي يبقى مفتخرا بأمجاد الماضي من دون أن ينفع حاضره ولا يفكر في مستقبله. وإذا كان من حقنا وحق الأجيال العربية الفخر، فإن هذا الافتخار لن ينفعنا في شيء إن لم نستخدم نتائجه الإيجابية في إحداث تحولات حضارية.
لننظر في محصلة هذا الإرث الثقافي الكبير الذي حصدناه من أثر ما زرعنا، ولا نرمي به في متحف الذاكرة.
إن أول ما يتجلى من أثر هذا النجاح الذي أبهر العالم هو إثبات القطريين لقدرتهم على خوض التحديات وكسبها على منوال ما قام به الأجداد حتى صارت استجابتهم لما يعترضهم منها جزءا من شخصيتهم الوطنية، فقد أبهر القطريون العالم بأسره بالتنظيم المحكم، وبالإنجازات الضخمة التي شملت البنية التحتية من ملاعب وطرقات ووسائل نقل ساعدت على أن يقام المونديال في أفضل الظروف وبشروط الاستدامة، وهو ما سيبقى علامة فارقة لأجيال من القطريين في العقود القادمة.
ملعب 974 الذي افتتح بمناسبة مونديال العرب في قطر (الجزيرة)
ملعب لوسيل هو أكبر الملاعب المضيفة للبطولة، حيث تزيد سعته الرسمية على 80 ألف مشجع (مواقع التواصل)
شبكة مترو الدوحة تضمن الوصول مباشرة إلى أغلب ملاعب كأس العالم 2022 (شترستوك)
ولم يقتصر هذا النجاح على تنمية دافعية العمل والإتقان لدى أبناء المجتمع القطري فحسب، بل إن فضيلة هذا النجاح الكبير أنه أعاد التفاؤل والأمل إلى العالم العربي في مرحلة تحتاج فيها الأجيال العربية إلى نماذج ملهمة للفعل الحضاري مثل حاجتها إلى الإيمان بقدراتها والخروج من أسر تلك الصورة الدونية التي رسمها لها الفكر الاستعماري الجديد. إذ إن الانتصار النفسي شرط أساسي لأي نهضة حضارية، وكم من شعوب تراخى فعلها الحضاري بسبب هزيمتها النفسية.
وحرك المونديال "الذاكرة الجماعية " للشعوب، فقد استعاد العرب والمسلمون خاصة أمجاد الحضارة العربية الإسلامية حين كنا نقود ركب الحضارة ونؤثر في المجتمعات الأخرى، ونتصدر "النموذج" الحضاري للتقدم.
علم كُتب عليه "فلسطين حرة" خلال مباراة للمنتخب التونسي في كأس العالم قطر 2022 (وكالة الأناضول)
ومن النتائج الرئيسية للمونديال استعادة الدور الأساسي الذي تلعبه الثقافة في تقديم الصورة المثلى لدولة قطر، التي أعادت "الثقافة" إلى قلب الاهتمامات الدولية، باعتبارها محددا مهما لطبيعة العلاقات الدولية، فقد كانت الحملة التي تعرضت لها قبيل انطلاق كأس العالم "حملة ثقافية" بالدرجة الأولى، وكان التعاطي معها ثقافيا. هناك من كان يجرُ نحو "صدام الحضارات" وبينما كانت المباريات تدار على أرضية الملاعب العجيبة والساحرة، كانت مباراة كبرى تدار على أرضية الثقافة العالمية بين دعاة الصدام ودعاة الحوار والتعارف.
لقد احتوى المونديال على تعبيرات ورسائل ثقافية منحت البطولة طابعا استثنائيا، وأكدت قيمة القوة الناعمة حيث أثرت مختلف تلك التعبيرات الثقافية على ملايين المشاهدين في العالم. وهذا ما يؤكد من جديد فاعلية الدبلوماسية الثقافية التي تُعد الدبلوماسية الرياضية جزءا منها، إذ تحتاج الدول دائما إلى وسائل ثقافية لترويج ثقافتها وتعزيز حضورها في العالم، وقد كان المونديال اختبارا حقيقيا لجدوى هذه الدبلوماسية التي تتطلب اليوم مزيدا من العمل من أجل المحافظة على مكتسباتها والاستمرار في تنويع أدواتها.
أغنية افتتاح مونديال قطر 2022 (غيتي)
احتضنت قطر على امتداد شهر كامل جمهورا من مختلف دول العالم، ومن ثقافات ولغات ومعتقدات وأعراق متنوعة، وكان التحدي الأكبر يتلخص في وضع قيمنا وثقافتنا على محك التواصل مع هذا التنوع الإنساني، وقد كسب المجتمع القطري رهان التواصل الحضاري بجدارة أدت إلى إحداث "صدمة الغرب"، الذي اعتبر بعض مناوئي العرب والمسلمين فيه أن مدونتنا القيمية عاجزة عن قبول الثقافات الأخرى، وأن الإنسان العربي عاجز عن الإسهام في الحضارة الإنسانية، ومن نتائج تسفيه تلك المزاعم تسويق الصورة الحقيقية للإنسان العربي القادر على الفعل متى تحققت له ظروف الإبداع. وبدت بعض الخطابات الغربية أقرب إلى العنصرية منها إلى الشعارات البراقة التي تدعي احترام الخصوصيات الثقافية للشعوب، ولا شك فإن اختبار هذه الشعارات في المونديال كان واضحا أمام العالم.
مشجعو إسبانيا داخل الملعب قبل مباراة منتخبهم أمام المغرب بالدور الـ16 في كأس العالم قطر 2022 (رويترز)
تنوع الجماهير هو العنوان الأبرز لاحتفالات كأس العالم في قطر (الصحافة القطرية)
المجالس القطرية تستضيف الجماهير (مواقع التواصل)
قدمت دولة قطر من خلال المونديال درسا في مفهوم التبادل الثقافي، ألا وهو احترام الخصوصيات الثقافية وليس الإذعان إلى فرض تعبيرات ثقافية تتعارض مع سلم القيم العربية الإسلامية. هذه القيم التي كانت جزءا أساسيا من التعبيرات الثقافية للمونديال، وحددت منذ حفل افتتاح المونديال "بوصلة" جميع فعالياته. ولم تكن البوصلة مستمدة من مرجعيات غريبة عن المجتمع القطري، بل أقيمت على مفهوم "التعارف" القرآني من خلال الفقرة التي جمعت بين الشاب القطري غانم المفتاح والممثل الأميركي مورغان فريمان. وبينت رمزية الحفل بجميع مكوناته اعتزاز القطريين بانتمائهم إلى الحضارة العربية الإسلامية وافتخارهم بقيمها السمحاء، فلأول مرة في تاريخ المونديال يتلى القرآن الكريم على أرض عربية ومسلمة في حفل تابعه المليارات من البشر، ليدركوا رسالة دولة قطر إلى العالم بضرورة التزام أصل الاجتماع الإنساني القائم على الحوار والاحترام والتعارف، وليس الصدام والكراهية والتفاضل.
مورغان فريمان (يسار) وغانم المفتاح خلال افتتاح كأس العالم (الفرنسية)
لذلك كانت الفعاليات الثقافية للمونديال تعزز مسألة الهوية، وتؤكد أن الثقافة العربية الإسلامية جزء من الهوية الوطنية، فكان من رهانات القطريين تقديم ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم باعتزاز كبير، مما أكسب المونديال طابعا استثنائيا، وكانت إقامة الصلاة والأذان من العلامات التي جلبت التقدير، مثلما كانت حفاوة القطريين بالجماهير في كل مكان ترجمة صادقة لكرم الضيافة، وفرصة لتقديم صورة حقيقية عن طبيعة القيم الاجتماعية التي عاش بها الأجداد وتوارثناها جيلا بعد جيل، مما عكس وحدة المجتمع القطري ثقافيا واجتماعيا في التعاطي مع مختلف ظواهر المونديال.
الصلاة في ساحات الملاعب (الجزيرة)
لم يمنع المونديال من تقديم قطر "نمطا ثقافيا" جديدا في الحوار بين الثقافات وفي الاعتزاز بالهوية الوطنية من دون الانغلاق، مثلما ساعد المونديال على تنشيط الصناعات الإبداعية، ومنها ما يتعلق بالصناعات الحرفية، فقد تزينت الجماهير القادمة من كل أنحاء العالم بالعقال والغترة، وأضحى للبشت القطري رواج كبير ورمزية بعد أن ارتداه قائد الفريق الأرجنتيني في مراسم تسلم كأس البطولة.
أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يقوم بإلباس اللاعب ميسي البشت العربي (مواقع التواصل)
ومن مكاسب المونديال أنه لم يحجب القضايا العادلة التي تؤمن بها الجماهير في كل مكان، لأن الرياضة ليست مجردة من القيم الإنسانية، والشعوب لا تهتف لمنتخباتها فقط وإنما تصدح بموقفها الإنساني من بعض القضايا الإنسانية، لذلك كانت القضية الفلسطينية حاضرة في وجدان الجماهير وفي هتافاتهم وفي تعبيرهم عن مساندتها برفع العلم الفلسطيني في كل مكان، في إشارة إلى أن الضمير العالمي لا يزال حيا.