الرجال الأقوياء: كيف يُهدِّد "تقديس القائد" الديمقراطية حول العالم؟

profile
  • clock 22 أبريل 2022, 3:49:20 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

عرض: صباح عبد الصبور /  إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

تشير بعض الأدبيات إلى أن تولي القادة “الاستبداديين” أصبح سمة مركزية للسياسة العالمية في الألفية الجديدة؛ فمنذ عام 2000، صعد قادة أقوياء إلى السلطة في عواصم متنوعة، مثل موسكو وبكين ودلهي وبرازيليا وبودابست وأنقرة وواشنطن والرياض. ويشترك هؤلاء القادة في سمات معينة، ويشجعون على “عبادة الشخصية”. ولم يَعُد هؤلاء القادة يحكمون الأنظمة السياسية الاستبدادية فحسب، بل بدؤوا يظهرون في قلب الديمقراطية الليبرالية، مثل دونالد ترامب في الولايات المتحدة. في هذا الإطار، يُقدِّم كتاب “عصر الرجل القوي: كيف يهدد تقديس القائد الديمقراطية حول العالم؟” للصحفي البريطاني وكبير المعلقين للشؤون الخارجية في فاينانشال تايمز “جدعون راشمان”، الصادر عن دار “بودلي هيد” في 2022؛ نظرة تحليلية حول صعود القادة الأقوياء في جميع أنحاء العالم، والسمات المشتركة بينهم، وتأثيرهم على الديمقراطية العالمية بوجه عام، والديمقراطية الأمريكية بوجه خاص. ويُعَد الكتاب أول معالجة عالمية حقيقية للقومية الجديدة من خلال التركيز على الفاعلين الرئيسيين، ويكشف عن التفاعل المُعقَّد بين هؤلاء القادة. وتتمثل أطروحة “راشمان” المركزية في أن هذه ظاهرة حديثة بدأت مع صعود بوتين إلى السلطة في 1999–2000. ويمكن استعراض أبرز ما جاء في الكتاب على النحو الآتي:

نماذج عالمية

يقدم “راشمان” في كتابه لمحة عن 14 من قادة العالم الأقوياء والاستبداديين، بعضهم منتخب، وبعضهم غير منتخب، ممن أثَّروا على مناخ السياسة العالمية على مدى العشرين عاماً الماضية، ومنهم:

1– اعتبار بوتين بداية صعود نموذج “الرجل القوي”: سلَّط الكتاب الضوء في فصله الأول على “فلاديمير بوتين” الذي تولى السلطة في روسيا في اليوم الأخير من القرن العشرين، وقد التقاه “راشمان” لأول مرة في دافوس، وأشار إلى أن نظرته الأولية لبوتين في عام 2000 كانت “شخصية مطمئنة نسبياً”؛ فقد بدا مُتحمساً ظاهرياً بشأن الانتخابات والصحافة الحرة، ثم بدأ بوتين مشروعه المناهض للغرب عام 2007، عندما شجب الحديث الغربي عن الحرية والديمقراطية؛ وذلك في مؤتمر ميونيخ للأمن. وفي العقد التالي، ظهر “بوتين” بوصفه حاكماً مستبدّاً بالكامل مع “غزوه” شبه جزيرة القرم بأوكرانيا، وتدخُّله في سوريا، وسجن النشطاء والصحفيين.

وينظر المؤلف إلى بوتين على أنه “النموذج الأصلي للجيل الحالي من القادة الأقوياء”. ويظهر ذلك في تكتيكاته التجارية، من خلال كبح جماح مصادر القوة المستقلة، وتأكيد السلطة المركزية للدولة، واستخدام الأكاذيب والمعلومات المضللة، والتخريب المؤسسي، وعبادة الشخصية، والفساد المنهجي، والقومية العرقية، والحروب الثقافية والتحريفية التاريخية لتعزيز سلطته. وقد ظهرت العديد من النماذج في الصين والمجر وإسرائيل والفلبين التي تحاول تقليد نموذج بوتين.

ومع ذلك، يشير المؤلف إلى أنه كما كانت طول فترة حكم “بوتين” غير متوقعة، فإن أيام نظامه قد تكون معدودة؛ لأن روسيا التي يحكمها، “منبوذة دوليّاً” على حد تعبيره، مع سُكان “تقل أعدادهم ويتقدمون في السن” ويعتمدون على عائدات النفط والغاز.

2– تعزيز صعود “ترامب” نموذج “الرجل القوي”: أشار “راشمان” إلى أن انتخاب دونالد ترامب في عام 2016 كان نقطة تحول جديدة لصالح نموذج “الرجل القوي”؛ فقد أثَّر صعود “ترامب” على مناخ السياسة العالمية، وعزز أسلوب الرجل القوي وشرعيته، وأدى إلى ظهور موجة من “المحاكيات”؛ وذلك بفضل القوة الاقتصادية والثقافية الفريدة للولايات المتحدة.

وفي هذا السياق، أشار الكاتب إلى بعض المستبدين الذين بدؤوا يتأثَّرون بنموذج ترامب، مثل “رودريجو دوتيرتي” الذي كان ينشر “أخباراً كاذبة” في الفلبين، كما تعرَّض الرئيس البرازيلي “جاير بولسونارو” – مثل ترامب – لازدراء المثقفين، لكنه كان محبوباً من أجزاء من “المدن الصغيرة والريفية” من بلاده. ومثل ترامب أيضاً، كان يمتلك عدداً هائلاً من المتابعين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكان يستخدم خطاباً “صادماً”. ومع ذلك، واجه “ترامب” قيوداً وتوازنات أكثر من نظرائه؛ وذلك بفضل المؤسسات والاتفاقيات السياسية التي تطورت على مدى قرون من السياسات الديمقراطية في الولايات المتحدة.

3– نماذج متعددة لـ”الرجال الأقوياء” حول العالم: يسمي “راشمان” بوتين “النموذج الأصلي” الذي يقتدي به القادة الأقوياء. وفي فصول كتابه التالية، وصف الكاتب كيف نفَّذ رجب طيب أردوغان حملة قمع وحشية ضد الحريات المدنية، وأصدر تشريعات مناهضة للعلمانية، وركز السلطات على نحو غير مسبوق بيد السلطة التنفيذية. كما يشير إلى حملة “شي جين بينج” “لمكافحة الفساد” وتطهير المعارضة في الصين، وحملته على الصحافة، ومعسكرات اعتقال الإيجور الضخمة، والقمع “الوحشي” للاحتجاجات الديمقراطية في هونج كونج. كما قدَّم رئيس وزراء المجر “فيكتور أوربان” بوصفه المثل الأعلى لـ”سلالة جديدة من اليمينيين الشعبويين” في أوروبا من أعداء الليبرالية.

سمات مميزة

يشير الكتاب إلى سمات مميزة لحكم الرجال الأقوياء في العالم، مثل ازدراء المحاكم والمؤسسات الديمقراطية الأخرى، وعبادة الشخصية، والقومية ومعاداة العولمة، والارتكاز على قاعدة غير متعلمة وريفية، كما أنهم يبنون جاذبيتهم حول قائمة مرجعية من القضايا، بما في ذلك عدم المساواة، والهجرة، والهوية الوطنية.

1– استقاء الأفكار من نظريات “كارل شميت”: يشير “راشمان” إلى أن بعض هؤلاء القادة ليسوا مجرد “استبداديين” بالفطرة، بل هم مُنظِّرون جادُّون يسعون إلى إنهاء حقبة الليبرالية، ويستقون أفكارهم من المُنظِّر السياسي “كارل شميت” من أجل نظرية سياسية تؤكد أهمية الهوية الوطنية في السياسة، وتتعامل مع المبادئ الديمقراطية، مثل حرية التعبير وحرية الإعلام وفصل السلطات وسيادة القانون بازدراء صريح.

2– ضعف السمات الشخصية والفكرية: يرى الكتاب أن نماذج قيادات “الرجل القوي” غالباً ما تكون ضعيفة للغاية من حيث سماتهم الشخصية وأفكارهم السياسية، ويستشهد بعدة نماذج لتأكيد ذلك؛ فعلى سبيل المثال، رغم أن “فلاديمير بوتين” استمر في السلطة لفترة أطول من أي شخص آخر، ومع ذلك يظهر على أنه رجل “ضئيل” يشعر بعدم الأمان، ومُحاصَر في فترة زمنية ثقافية، وتتحرك رؤيته لمستقبل روسيا من خلال الحنين إلى الحقبة السوفييتية.

3– الخوف من القوى السياسية المعارضة: يرى الكاتب أن الرئيس الصيني “شي جين بينج” يظهر بالشكل القوي ظاهرياً، لكنه يُظهر خوفاً مماثلاً من المعارضة، كما يتضح من عمليات التطهير القاسية للحزب الشيوعي الحاكم، و”القمع” ضد نشطاء الديمقراطية في هونج كونج.

4– قلة خبرة النماذج الحالية بالقيادة: علاوة على ذلك، يرى “راشمان” أن نماذج القادة الأقوياء الحالية تؤكد ضعف خبرتهم بالقيادة؛ فعلى سبيل المثال، يُصنِّف رئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي” نفسه على أنه رجل الجماهير، لكن إصلاحاته الزراعية المقترحة في عام 2020 أثارت احتجاجات شعبية غير مسبوقة في البلاد.

5– المساهمة في تآكل هيبة النموذج الأمريكي: بحسب راشمان، ساعد الحكام الاستبداديون في تقويض المُثُل والممارسات الديمقراطية في جميع أنحاء العالم منذ عام 2000، وبنجاح متزايد بعد الانهيار المالي في عام 2008؛ فقد شهدت السنوات الخمس عشرة الماضية التدهور الأكثر استدامةً في الحرية السياسية في جميع أنحاء العالم منذ ثلاثينيات القرن الماضي. والمثير للصدمة – وفقاً للكاتب – أن معقل الديمقراطية، في إشارة إلى الولايات المتحدة، اقتربت من الانهيار. ويعتقد الكاتب أن نجاح هؤلاء القادة أدى إلى تآكل هيبة النموذج الديمقراطي الليبرالي الأمريكي في القرن الحادي والعشرين، وكانت إحدى أكبر المشكلات التي تسبب فيها ترامب أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على العمل باعتبارها نموذجاً للدول الأخرى. ومع ذلك لا يزال راشمان يعتقد أن “النظام الذي تقوده أمريكا” هو الحل لمواجهة عصر الرجال الأقوياء.

نماذج مغايرة

يشير الكاتب إلى وجود نماذج ليبرالية غربية ملهمة على المستويات الرسمية وغير الرسمية في مواجهة نموذج “الرجل القوي”، منها:

1– اعتبار “ميركل” زعيمة العالم الديمقراطي: عقب فوز ترامب في عام 2016، تم الترحيب بميركل في بعض الأوساط باعتبارها زعيمة حقيقية للعالم الديمقراطي. وعندما ضربت أزمة اللاجئين أوروبا، كانت ميركل أهم شخصية سياسية في القارة. وفي ضوء سياستها المرحبة باللاجئين، اتخذ البعض “ميركل” رمزاً للغرب الليبرالي في ضوء خيارها عدم إغلاق حدود ألمانيا في وجه الملايين من اللاجئين المكدسين في أوروبا الشرقية. وفي ظل الجائحة العالمية، أيدت المستشارة الألمانية فكرة الديون المتبادلة في أوروبا بعدما كانت تُعد من المحظورات؛ من أجل إنعاش الاقتصاد في مواجهة جائحة كورونا، وتمويل الإغاثة لمواجهتها.

2– غضب القادة الأقوياء من تحركات “جورج سوروس”: وفقاً للكتاب، يستخدم “جورج سوروس” ثروته الهائلة للمساعدة في تمويل نماذج الليبرالية والديمقراطية والمجتمع المفتوح؛ إذ تم تقديم المنح المبكرة لمساعدة الطلاب السود أثناء نموذج الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. وفي العالم الشيوعي بدأ “سوروس” تدريجياً في الثمانينيات، يستهدف الكتلة السوفييتية والصين نحو التغيير الليبرالي بشكل رئيسي من خلال الاستثمار في التعليم ودعم منظمات المجتمع المدني. وفي مبادرة نموذجية أخرى، حوَّل 100 مليون دولار لتمويل رواتب العلماء السوفييت العاطلين عن العمل.

وبحسب الكاتب، يشجب بعض القادة الأقوياء مؤسسات “المجتمع المفتوح” التابعة لسوروس، التي تمول منظمات المجتمع المدني التي تعزز التعليم والصحافة الحرة والأقليات والحقوق ومبادرات مكافحة الفساد. فعلى سبيل المثال، كانت الحكومة الروسية غاضبة بوجه خاص من دعم “سوروس” للقوى المؤيدة للديمقراطية، التي لعبت دوراً في ثورة الزهور بجورجيا عام 2004. وفي عام 2015، طردت الحكومة الروسية مؤسسات المجتمع المفتوح، كما واجهت إسرائيل أنشطة سوروس، نظراً إلى أن مؤسساته كانت تدعم الحقوق الفلسطينية ومراكز الفكر الإسرائيلية الليبرالية وقضايا أخرى لا تحظى بشعبية لدى اليمين الإسرائيلي.

3– مواجهة “بايدن” سياسات الرجل القوي داخليّاً وخارجيّاً: يشير الكاتب إلى أن أقوى دولتين في العصر الحالي (الولايات المتحدة الأمريكية والصين) كلتاهما كانت ستقع في قبضة السلطوية القومية. ولكن لا تعني هزيمة ترامب عام 2020 أن الخطر قد انتهى؛ لذا تحارب إدارة “بايدن” سياسات الرجل القوي على جبهتين؛ ففي الداخل يواجه بايدن تهديد الحزب الجمهوري، وفي الخارج يتعامل مع نموذج الرجل القوي الحازم متمثلاً في القادة بالصين وروسيا. وهذه التحديات الداخلية والخارجية مرتبطة بعضها ببعض. ويرى الكاتب أن واشنطن لن تكون قادرة على الدفاع عن الحرية في الخارج إذا لم تستطع إنقاذ ديمقراطيتها.

ويؤكد الكتاب أن دور الولايات المتحدة حتمي للدفاع عن الحرية والليبرالية؛ إذ لا يوجد فاعل بديل معقول يمكنه أن يلعب هذا الدور؛ حيث لا تمتلك ألمانيا أو فرنسا أو الاتحاد الأوروبي ككل الهياكل السياسية والقوة العسكرية أو ردود الفعل الدبلوماسية للتدخل واستبدال الولايات المتحدة كقوة عالمية للدفاع من أجل الحرية السياسية. ومع ذلك، هناك العديد من الصعوبات التي تواجه بايدن بعد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، وعودة التضخم، وأزمة المهاجرين على الحدود الجنوبية لأمريكا، والاقتتال الداخلي في الولايات المتحدة بين الأحزاب.

4– توقعات باستمرار نموذج “الرجل القوي” لمدة ثلاثين عاماً: وفقاً لما تضمَّنه الكتاب، تشير خبرات العصور السابقة إلى أن عصر الرجل القوي يمكن أن يستمر ما يصل إلى ثلاثين عاماً، وأن هناك قاعدة شعبوية يستند إليها هؤلاء القادة لإثبات نجاحهم؛ فقد استخدمت الصين الفيروس التاجي والجائحة للقول بأن النظام الصيني أثبت تفوقه على الليبرالية الغربية. ومع ذلك هناك عيوب داخلية في الأنظمة الاستبدادية قد تكون سبباً في التراجع، ومنها عدم القدرة على تحمُّل النقد والعجز والخلافات؛ فكما هو واضح، فإن القادة الأقوياء ليسوا معتادين التنازلَ عن السلطة بسلاسة عندما تسوء الأمور؛ فعلى العكس في الولايات المتحدة، كانت الهزيمة السياسية وقوة المؤسسات الأمريكية كافيتَيْن لإفشال جهود “ترامب” لقلب نتيجة انتخابات 2020.

وختاماً.. لفت الكتاب إلى أن الأنظمة الديمقراطية تتميَّز بأن لديها مؤسسات وقوانين تدير الأمور بحسم؛ إذ تعتمد على المؤسسات لا على الأفراد، وهو ما يفتقده حكم الرجل القوي، الذي يُمثل نموذجاً مَعيباً بطبيعته وشكلاً غير مستقر للحكومة؛ لذلك يرى “راشمان” أن المجموعة الحالية من “الرجال الأقوياء” لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، وأن صعود أفكارهم قد لا يستمر طويلاً، وإن كان هذا الصعود سيُخلِّف بعض الآثار والتداعيات الداخلية والعالمية.

المصدر:

Gideon Rachman, The age of the strongman: how the cult of the leader threatens democracy around the world, The Bodley Head, 2022.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)