أحمد عسكر يكتب: أبعاد الجولة الأفريقية للرئيس الفرنسي "ماكرون"

profile
  • clock 1 أغسطس 2022, 7:14:18 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
google news تابعنا على جوجل نيوز

قام الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” بجولة أفريقية بين 25 و28 يوليو 2022، شملت دول الكاميرون وبنين وغينيا بيساو، في أول زيارة له خارج أوروبا عقب إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثانية في مايو 2022، كما أنها المرة الأولى التي يزور فيها ماكرون الدول الثلاث منذ فترة ولايته الأولى التي بدأت في عام 2017. ورافقه خلال الزيارة عدد من المسؤولين الفرنسيين مثل وزيرة الخارجية ووزير الدفاع ووزيرة الدولة للتنمية. وارتبطت هذه الجولة بهدفين رئيسيين لباريس؛ هما: الأمن والاقتصاد.

وتكتسب الجولة أهمية استراتيجية لكونها تأتي في الوقت الذي تواجه فيه فرنسا أزمة شرعية في المنطقة بعد الانسحاب من مالي، وتصاعد الاحتجاجات الشعبية ضد الوجود الفرنسي في الساحل وغرب أفريقيا. ومن ثم يمكن أن تمثل جولة ماكرون إشارة إلى الأولوية السياسية الممنوحة للقارة الأفريقية في ولايته الثانية، كما أنها قد تعكس سعياً فرنسياً لإعادة التموضع الجيوسياسي في أفريقيا عقب مرحلة من الإخفاق على مدار العقد الماضي في مواجهة تنامي التحركات الدولية، لا سيما الروسية والصينية والتركية.

دوافع رئيسية

حملت زيارة ماكرون إلى وسط وغرب أفريقيا العديد من الأهداف الاستراتيجية الرامية إلى إعادة ترتيب الأولويات الفرنسية في المنطقة بهدف تعزيز نفوذها، وتتمثل أبرزها في:

1- تخفيف التوترات الفرنسية الأفريقية: إذ تعد الجولة محاولة لرأب الصدع الذي تسبب فيه تصاعد التوتر بين فرنسا وبعض الدول الأفريقية خلال السنوات الأخيرة، مثل مالي وبوركينا فاسو وغينيا وأفريقيا الوسطى وتشاد؛ ففي عام 2020 توترت العلاقات بين باريس وياوندي عقب تلميحات فرنسية خاصة بممارسة ضغوط على نظام الرئيس “بول بيا” بسبب تصاعد أعمال العنف في البلاد. وفي سبيل ذلك تغاضى ماكرون عن مناقشة انتهاكات حقوق الإنسان في تلك الدول خوفاً من تجدد التوتر أو تحول الدول الأفريقية إلى منافسيه في المنطقة مثل روسيا. وأبدى اهتمامه خلال جولته بمناقشة بعض الملفات الاستراتيجية التي تؤرق الدول الأفريقية، مثل الإرهاب والأمن وتحديات الأمن الغذائي في ضوء تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية. فقد بحث مبادرة “فارم” التي أطلقت في مارس 2022 مع الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي بهدف زيادة الإنتاج الزراعي.

ويحاول ماكرون تحسين صورة باريس لدى الرأي العام الأفريقي من خلال إبداء استعداده لفتح ملف الانتهاكات الفرنسية في الدول الأفريقية خلال فترة الاحتلال الفرنسي، مثل رواندا والجزائر، وخلال زيارته إلى الكاميرون أعلن عن فتح ملف الحكم الاستعماري الفرنسي للكاميرون بهدف تسليط الضوء على الانتهاكات الفرنسية في تلك الحقبة، خاصة بعد دعوة مجموعة من الأحزاب السياسية الكاميرونية فرنسا إلى الاعتراف بالجرائم التي ارتكبتها خلال حقبة الاحتلال الفرنسي لبلادها.

2- استقطاب حلفاء جدد إلى الفلك الفرنسي: تشير الزيارة إلى محاولة فرنسية لرسم خطوط حمراء جديدة وتعيين مناطق لا ينبغي للمنافسين الجيوسياسيين الدوليين، مثل روسيا، تجاوزها، خاصةً أن باريس لا تزال ممسكة بمعظم خيوط اللعبة في منطقة الساحل على الصعيدين الأمني والاقتصادي. ومع خروج بعض دول غرب أفريقيا خارج عباءة الفرانكفونية بعدما انضمت الجابون وتوجو الناطقتان بالفرنسية إلى منظمة الكومنولث في 12 يونيو 2022، تزداد الدوافع الفرنسية نحو إيجاد شركاء إقليميين جدد لها خوفاً من انفراط عقد حلفائها الذي ربما يؤثر على تراجع نفوذها في القارة والمنطقة.

وتخشى باريس فقدان مكانتها لدى حلفائها لصالح قوى دولية أخرى مثل الصين وروسيا وتركيا؛ لذلك تسعى إلى استعادة نفسها شريكاً للدول الأفريقية مثل الكاميرون التي تعد زيارة “ماكرون” هي الأولى منذ زيارة الرئيس السابق هولاند في عام 2015، خاصةً بعدما وقَّعت الكاميرون اتفاقية تعاون عسكري مع موسكو في أبريل 2022؛ ما قد يعكس تبني ماكرون سياسة جديدة تجاه أفريقيا لتحجيم تحركات القوى المناوئة لباريس هناك.

3- البحث عن شراكات اقتصادية جديدة: لا تنفصل جولة الرئيس الفرنسي الأفريقية عن مساعي باريس إلى ضمان تأمين الحصول على النفط الأفريقي باعتباره بديلاً مهماً يعوض ارتفاع أسعار الطاقة على المستوى العالمي؛ حيث حث “ماكرون” الدول الأفريقية على إنتاج المزيد من النفط والغذاء، كما تعتبر دول وسط وغرب أفريقيا منتجاً رئيسياً للغذاء في القارة، وهو ما يمثل أهمية بالنسبة إلى فرنسا في إطار مساعيها للبحث عن فرص استثمارية في القطاع الزراعي في هذه المنطقة.

إذ تمتلك الكاميرون العديد من الموارد والثروات الطبيعية، لا سيما النفط والماس والذهب والفضة. وهي من أكثر 10 دول أفريقية إنتاجاً للنفط في القارة بمعدل 67 ألف برميل يومياً، فيما تحتل غينيا بيساو المرتبة الثامنة أفريقياً في إنتاج النفط، إضافةً إلى امتلاكها مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الخصبة، في حين تعد بنين من أغنى البلدان الأفريقية في إنتاج القطن، ويرتبط اقتصادها بمنطقة اليورو لا بالدولار.

4- لعب باريس دوراً بارزاً في أزمات المنطقة: فهناك رغبة لدى “ماكرون” في توصيل رسالة إلى الدول الأفريقية بأن فرنسا لن تتخلى عن أمن أفريقيا وحلفائها، وهو ما يدفعه إلى محاولة ربط الدول الأفريقية بباريس من خلال محاولة تسوية بعض أزماتها وتوسيع دائرة الاستثمارات والاستفادة من الفرص الواعدة هناك، فضلًا عن الدعم العسكري لها في مواجهة تنامي التهديدات الأمنية وتصاعد النشاط الإرهابي في عدد من الدول، مثل بنين والكاميرون، فضلًا عن بعض الأزمات الداخلية مثل التي تشهدها الكاميرون؛ حيث تتصاعد فيها أعمال العنف العرقي، وتنشط بعض الحركات الانفصالية التي تقاتل في المنطقتين الشمالية الغربية والجنوبية الغربية الناطقتين بالإنجليزية منذ عام 2017 من أجل إعلان دولة مستقلة في البلاد، وهو ما يعزز زعزعة الاستقرار في الدولة الرائدة اقتصادياً في منطقة وسط أفريقيا.

5- بناء شراكات أمنية واستراتيجية جديدة مع الدول الأفريقية: يبدو أن ماكرون يعزز مساعيه لإعادة تأكيد صورة الدولة التي تحارب الإرهاب في العقل الجمعي الأفريقي لتجاوز مرحلة الإخفاق على مدار العقد الفائت؛ وذلك من خلال تبني مقاربة جديدة في مجال محاربة الإرهاب واعتماداً على حلفاء جدد، في ضوء التحرك الفرنسي لإعادة تعريف استراتيجية باريس الدفاعية في أفريقيا بعد انسحاب القوات الفرنسية من مالي وإعادة تركيز اهتمامها على منطقة خليج غينيا بما في ذلك بنين وتوجو وكوت ديفوار.

وتعتمد هذه الاستراتيجية على قوات أصغر حجماً وأقل عرضةً للخطر في أفريقيا، التي تتزامن مع إعادة تقييم لميزانية الجيوش الفرنسية خلال الفترة بين عامي 2024 و2030 بسبب الحرب في شرق أوروبا؛ إذ تعتزم باريس إعادة صياغة وتوسيع آليتها الأمنية في المنطقة لتشمل دول خليج غينيا التي يتعين عليها التعامل مع التنظيمات الإرهابية التي يتوسع نشاطها في المنطقة. فقد أعلن ماكرون إمكانية تقديم الدعم العسكري للجيوش الأفريقية من خلال التدريب والمعدات والبعثات المشتركة، وأكد خلال زيارته إلى بنين تسليم أسلحة متطورة إليها مثل الطائرات بدون طيار (الدرونز)، فضلًا عن تقديم الدعم الجوي والاستخباراتي وتدريب القوات هناك لمواجهة التنظيمات الإرهابية النشطة في شمال البلاد.

6- إعادة تقييم الوجود العسكري الفرنسي في القارة: حيث يمهد “ماكرون” لاستراتيجية فرنسية جديدة تجاه القارة من المحتمل الإفصاح عنها في سبتمبر المقبل، وتتعلق بمساندة دول القارة في قطاعات التنمية المختلفة، فضلًا عن تقديم الدعم العسكري بالرغم من استمرار انسحاب قوة برخان من مالي، وإعادة توزيعها في المنطقة خلال الفترة المقبلة انطلاقاً من النيجر. وقد سبقت جولة ماكرون زيارة لمسؤولين فرنسيين إلى غرب أفريقيا في 15 يوليو 2022 وإلى النيجر في 22 يوليو 2022 بهدف رسم استراتيجية فرنسية لمحاربة الإرهاب في الساحل.

7- الحفاظ على النفوذ الفرنسي داخل إيكواس: وهو ما تبرزه أهمية زيارة ماكرون إلى غينيا بيساو التي تولت مؤخراً رئاسة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، في ظل المساعي الفرنسية إلى الحفاظ على علاقة قوية بالمنظمة الإقليمية بهدف تعزيز الضغوط على بعض الدول التي تغرد خارج السرب الفرنسي، مثل مالي وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري، التي شهدت انقلابات عسكرية خلال الفترة الأخيرة؛ ما أدى إلى توتر العلاقات مع باريس، بالإضافة إلى العلاقات المتميزة التي تربط تلك الدول بروسيا التي يتصاعد نفوذها بشكل كبير في المنطقة خلال الفترة الأخيرة.

8- مواجهة التحركات الأوروبية في المنطقة: حيث تدرك باريس مخاطر تنامي النفوذين الإيطالي والألماني في أفريقيا على مصالحها الاستراتيجية ونفوذها في الاتحاد الأوروبي؛ إذ سعت الدولتان خلال السنوات الأخيرة إلى تعزيز حضورهما في أفريقيا، وهو ما دفع باريس إلى إعادة تشكيل استراتيجيتها تجاه أفريقيا، وخاصةً الساحل وغرب أفريقيا حفاظاً على مكانتها بوصفها شرطي أوروبا في أفريقيا.

9- إيقاف الزحف الروسي تجاه منطقة الساحل: وذلك من خلال شيطنة الدور الروسي في أفريقيا واتهامها بأنها تصدر الجوع إلى أفريقيا؛ لكونها المتورط الرئيسي في تفاقم أزمة الغذاء العالمية الحالية، وارتفاع أسعار المواد الغذائية – وليست العقوبات الأوروبية كما تروج موسكو – في محاولة لاستمالة الرأي العام الأفريقي لصالح فرنسا وأوروبا في أزمة أوكرانيا وتحسين صورتهما بهدف عزل روسيا على الساحة الأفريقية.

فقد تصاعدت المخاوف الفرنسية بسبب التحركات الروسية في منطقة الساحل، وخاصةً على الصعيد الأمني في ظل الدور المتنامي لقوات فاجنر الأمنية الروسية في بعض دول المنطقة مثل مالي وأفريقيا الوسطى؛ إذ أبدى “ماكرون” قلقه إزاء توسيع العلاقات الدبلوماسية والعسكرية لروسيا مع عدد من الدول الأفريقية، واتهم موسكو بالتواطؤ مع النظم الحاكمة الأفريقية الضعيفة والمجالس العسكرية غير الشرعية في إشارة إلى مالي؛ وذلك تزامناً مع جولة روسية قادها “سيرجي لافروف” وزير الخارجية الروسي، إلى أفريقيا التي شملت دول مصر وإثيوبيا والكونغو وأوغندا.

تأثيرات محتملة

قد يترتب على جولة الرئيس ماكرون إلى وسط وغرب أفريقيا جملة من التداعيات المحتملة على مختلف الأصعدة، وتتمثل أبرز تلك التداعيات في:

1- تنامي المشاعر المعادية لفرنسا: وهي متزايدة بطبيعة الحال خلال الفترة الأخيرة، في ظل تحميلها المسؤولية بشأن تصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية في الساحل خلال العقد الأخير، وتدهور الأوضاع الاقتصادية في دول المنطقة؛ ما يزيد من احتمال اندلاع المزيد من التظاهرات الشعبية الرافضة للوجود الفرنسي في وسط وغرب أفريقيا.

2- السخط الشعبي تجاه الحكومات الأفريقية: وذلك نتيجة العلاقة الارتباطية بين النخب الحاكمة وفرنسا، وما يرتبط بها من تقديم تسهيلات لها للاستحواذ على ثروات البلدان الأفريقية، في الوقت الذي تعاني فيه دول المنطقة من معدلات فقر مرتفعة تسببت في تفاقم الأوضاع الإنسانية في العديد من المناطق، وتزايد أعداد النزوح والهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وهو ما قد يعزز زعزعة الاستقرار السياسي في بعض الدول الأفريقية وربما يتطور الأمر إلى اندلاع انقلابات عسكرية لإزاحة هذه النخب الموالية لباريس.

3- فقدان الثقة بالمقاربات الفرنسية الأمنية والتنموية: ربما لا تلقى الاستراتيجية الفرنسية تجاه أفريقيا التي يروج لها “ماكرون” وحكومته قبولًا لدى قطاعات عريضة في دول المنطقة، خاصة بعد إخفاق المقاربات الفرنسية خلال العقد الماضي في إعادة الاستقرار والتنمية لمنطقة الساحل، ويدلل على ذلك تنامي التهديدات الأمنية بما في ذلك تصاعد نشاط الإرهاب في المنطقة الذي أثر سلبًا على استقرار ونمو الاقتصادات الوطنية هناك.

4- استمرار توتر العلاقات بين إيكواس وبعض الدول الأعضاء: ربما يترتب على زيارة “ماكرون” إلى غينيا بيساو باعتبارها الرئيس الحالي لإيكواس ممارسة الأخيرة المزيد من الضغوط على المجلس العسكري الحاكم في مالي بإيعاز من باريس؛ ما قد يعرقل المؤشرات الإيجابية –نسبيًّا – التي تشهدها العلاقة بين الطرفين مؤخراً عقب قرار إيكواس رفع بعض العقوبات الاقتصادية عن مالي في أوائل يوليو 2022.

5- احتدام التنافس الدولي على أفريقيا: وذلك في ضوء الهجوم الشرس من قبل القوى الدولية الفاعلة من أجل النفط والغذاء واستمالة الدول الأفريقية من أجل تجنب تداعيات الأزمة الغذائية العالمية وأزمة النفط نتيجة استمرار الأزمة الروسية الأوكرانية في شرق أوروبا، وهو ما يجعل أفريقيا ساحة صراع جديدة بين تلك القوى؛ ما قد يؤثر على الأمن الإقليمي لدول القارة التي ربما تؤدي حالة الاصطفاف الإقليمي وراء أي من تلك القوى إلى توتر العلاقات الأفريقية-الأفريقية خلال الفترة المقبلة.

وفي هذا الإطار، يرجح أن تشتد المواجهة الروسية الفرنسية في أفريقيا؛ وذلك في ضوء تبادل الاتهامات بين الطرفين بالتسبب في أزمة الغذاء العالمية التي تعاني منها دول أفريقيا؛ الأمر الذي قد يترتب عليه احتدام الحرب الدعائية بين الطرفين على الساحة الأفريقية، ومحاولتهما حشد العديد من المناصرين في دول المنطقة، وربما يصاحب ذلك خروج الأوضاع الداخلية عن السيطرة؛ ما يعزز الاضطرابات السياسية والأمنية في دول المنطقة.

وإجمالًا.. يدرك الرئيس ماكرون جيداً المتغيرات الاستراتيجية الراهنة التي يشهدها النظام الدولي، وما يقتضيه الأمر من المسارعة نحو تغيير سياسة باريس تجاه أفريقيا والتحرك نحوها بسرعة لتعميق علاقاته بها باعتبارها ساحة تنافس جيوسياسي مهمة، وهو ما انعكس في التحركات الفرنسية الأخيرة تجاه منطقة وسط وغرب أفريقيا. إلا أن من الصعب التنبؤ بالنتائج المتوقعة لتلك الجولة وانعكاساتها على تعزيز النفوذ الفرنسي في المنطقة على المدى القصير، لحين النظر في نتائج الجولات المتزامنة لمسؤولي بعض القوى الدولية المنافسة لها في أفريقيا مثل روسيا وكذلك الصين التي لن تقف صامتة أمام تلك التحركات، وهو ما قد يفضي إلى احتدام التنافس الدولي في أفريقيا خلال الفترة المقبلة، وما قد يترتب عليه من تداعيات سلبية تضر بالأمن والاستقرار الإقليمي.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)